ذهب بنيامين في اليوم التالي إلى بيتِ سالم؛ ليُعطِيَه قرارَه ورأيَه فيما طلبَه منه في الأمس، وكانت مفاجأة سالم حينَ أخبره بنيامينُ برَفْضِه لعرضه، وأنَّه لن يُعرِّض نفسه لسخطِ اليهود، خاصَّةً أن عهدَه بالإسلام قريبٌ، ثُمَّ هو لم يُسلم إلى الآن، ثم قال له: وكيف أنتقمُ مِمَّن رَبَّيَانِي، ورُبَّما هما لم يسرقاني، بل وَجداني تائِهًا أو غير ذلك، وأحسنا إلَيَّ، فهل أكونُ منكرًا لجميلهما؟ فرَدَّ عليه سالِمٌ لَمَّا سمع كلامَه وهو يشعُر بانزعاجٍ كبير: كما تريد، ولكنَّك قلت لي: إنَّ أمَّك لم تكن تحب القلادةَ، وكأنَّها تخاف منها، فلو أنَّها لم تكن عملت ما تَخاف منه، فلِمَ تخاف إذًا؟ ولِمَ تكرهها إلى هذا الحد؟ ولكن على كلٍّ، فأنت بعُمر يسمح لك بمعرفة الخير من الشرِّ، ودينُك الأصلي هو الإسلام، ولكن إن أحببتَ غيره، فلا إكراهَ في الدين، ولكنْ لتعلمْ أنَّك محاسبٌ على كلِّ الأحوال، ومهما كان خيارك.
لم يردَّ بنيامين بكلمة، ثم استأذنَ، ووَدَّع سالِمًا؛ لأنه سيسافر.
عاد بنيامين إلى تل أبيب، ومباشرةً أخبر أبويه بموافقته على العمل كمُراسلٍ، ومُباشرة تسَلَّم العملَ وهو في تل أبيب، وطلب من القناة أنْ يعملَ برنامجًا وثائقيًّا، فاستغربت إدارةُ القناة طَلَبَه في بدايةِ عمله، فهو لا يَملك أيَّ خبرة حتى يعمل هذا البرنامج، ولكنَّها لإلحاحه، ولأنَّها تعرف تَجربته في الصُّحف الأمريكية، وخاصَّة عداوته للإسلام، وافقت على طلبه ولم تُخفِ أنَّ من الأسباب التي دفعتها للمُوافقة ماضِيَه المعروف بعَداوة الإسلام، فكان ذلك مُؤلِمًا لبنيامين، فهو يُعطَى الامتيازات الكبيرة؛ بسبب عداوته لدينه الحقيقي.
كان هدفُ بنيامين أن يثبتَ نفسَه كصحفي، ويُظهر قدراتِه أولاً قبل أن يكشفَ أوراقَه ورأيه في كُلِّ ما يَحدث؛ ولذلك اختار لبرنامجه الأول موضوعَ "الهجرة اليهودية إلى فلسطين"، التي تُسمَّى زورًا وبُهتانًا بإسرائيل، ولأنَّه يريد التميُّز، اجتهد ليكونَ برنامَجُه ومادته متميزة، ولهذا السبب بدأ يَطوف بين اليهود في تل أبيب، ويسألُ العائلاتِ اليهوديةَ عن سببِ هجرتِهم ونَتائجِها، وهل هُم راضون عن معيشتهم؟ وهل يوجد بين اليهود مَن يرغب في العودة إلى بَلدِهم الأصلي؟ ثم انتقل إلى مدن أخرى، والكاميرا معه، سواء كان معه المصور أم لم يكن معه؛ لأنَّه كان يريد أنْ يَحتفظ بالكاميرا أكبرَ وقت ممكن، ثُمَّ انتقل إلى مُستوطنات ومدن مُختلطة تضم اليهودَ والعرب، ومن خلال تَجوُّلاتِه بدأ يَلتَقِط الصورَ بكاميرا القناة، وإن لم تكن معه يستخدم كاميرا فيديو خاصَّة به، فرأى خلالَ هذه الجولة عِدَّةَ حوادثَ استطاع تصويرَها مستخدمًا لتصويرها أشرطةً خاصَّة به؛ ليحتفظَ بها لنفسه؛ لأَمْرٍ كان يَجول في خاطره.
كان من الصور التي التقطها صورةٌ لمستوطن يهودي يَعتدي على امرأة عربية، وهي تقاومُه، ثُم سحب عن رأسِها حجابَها، وطرحَها أرضًا، ولَمَّا سأل عن قصةِ هذا المستوطن والمرأة، حُكِيَ له أن هذا اليهودي يُحاوِل أن يستولِيَ على بيت تلك المرأة، ويُخرجها هي وأهلَها منه، وقد أصدرت المحكمة اليهودية قرارًا لصالح هذا اليهودي، فلذلك لم تتحمَّلِ المرأة، فصارت تشتمه وتسبه، وتتوعده بأنَّها لن تسمحَ له بدخول بيتها، فقام وضربها، ولم يكن جزاء هذا اليهودي من الشرطة، إلاَّ أن أبعدته عن هذه المرأة، ولم تسجنه، ولم تعمل له شيئًا.
في هذه المدينة نفسها رأى بنيامين أشجارًا تَحترق، فسأل، فقيل له: إنَّ مَن أحرقها هم المستوطنون اليهود، فصَوَّر هذه الأشجار وهي تحترق، ثُمَّ ما لَبِثَ أنْ سمع أصواتًا وضجة، فذهب باتِّجاه الصَّوت، فإذا بالمستوطنين يَحملون العِصِيَّ ويضربون الفلسطينيِّين، والفلسطينيُّون يرمونهم بالحجارة ويقاومونهم بأجسادهم، ثُمَّ بدأ الفلسطينيون يأتون ويتزايد عددُهم لنجدة هذه العائلة التي حُرقت أشجارُها، وبدؤوا يضربون المستوطنين، والمستوطنون تَحميهم الشرطة وكأنَّها لا ترى أفعالَهم، ثُمَّ بدأت الشرطةُ تضرب العَرَبَ؛ مساندةً للإسرائيليِّين، بدلاً من أن تُوقفهم عن اعتداءاتِهم.
واستمرَّ بنيامين في التنقُّل في مهمته، ويلتقي هو واليهود، ويسألهم عن هجرتهم، واستمر في مراقبة كل ما هو غريب؛ ليصوره، فلفت نظرَه صورٌ لأطفال صغار يرمون الجنودَ اليهود بالحجارة، واليهود يَفِرُّون منهم وكأنَّ مع هؤلاء الأطفال أسلحةً كبيرة، مع أنَّ الجنود يَحملون بنادقهم، ولكنَّهم يَخافونهم، فأعجب بنيامين بصلابة وقوة هؤلاء الأطفال، إلا أنَّه حدث شيء أفقد بنيامين عقلَه، لَمَّا سيطر أحدُ الجنود على واحد من الأطفال، وكأنَّه يُريد تخويفَ جميع الأطفال من خلاله، فانهال عليه ضربًا، وكأنَّه يضرب رجلاً كبيرًا، فوجه بنيامين كاميراهُ إلى هذا المشهد بعد أنَّ صوَّر الأطفال وهم يرمون الجنودَ بالحجارة، وكيف يهربون منهم.
ولكنَّه بعد دقائقَ لَم يَحتمل أن يرى ما يحدث، خاصَّة أن هذا الجنديَّ لم يشتفِ منه، بل بدأ يضربه بمُؤخِّرة بندقيته، فخبأ كاميراه، وهرع إلى الجندي؛ ليخلص الطفلَ من بين يديه؛ مِمَّا أغضب الجنودَ الآخرين، وبدؤوا يضربون بنيامين، ولم يتركوه إلاَّ لما عرَّفهم بنفسه كمراسل للقناة التي يعمل بها.
وهكذا جَمَع بنيامين عشراتِ الحوادث في رحلته لعمل البرنامج، ولكن أكثر ما أثَّر فيه هو ذاك الشاب الذي أراد الجنودُ أن يعتقلوه فقاومهم، ولكنَّه ما لبث أنْ سَيْطَر عليه الجنود؛ لكثرتِهم، فلم يرضَ أن يستسلم لهم، حتى وإن سيطروا عليه، ولكنَّه لم يَجد ما يقاومهم به، فبَصَق على وجه أحَدِهم؛ مما أثار الجندي، فأطلق الرصاص عليه وهو أسير عندهم، فاستشهد وهو بين أيديهم، فكان ذلك مدهشًا لبنيامين، فكيف يقتلون مَن أصبحَ أسيرًا ضعيفًا بين أيديهم، ولكنَّه لم يكن بيده شيءٌ يعمله، فحمل الكاميرا، وانصرف بعد تصويره لهذا المشهد، ولكن ما زاد من استغرابه صياغةُ الخبر على لسان المتحدثين اليهود، لَمَّا زعموا أنَّ هذا الشاب حاول قَتْلَ أحد الجنود؛ مما اضطرهم لقتله، فتيقَّنَ من كذبهم وخداعهم.
أكمل بنيامين برنامجه وعمله بشكلٍ يُظهِر أنَّ يهوديًّا هو من عَمِله، فهو هدفه أن يُظهر شخصِيَّتَه، ولكنَّه - بدعوى الحرية - استطاعَ بذَكاءٍ أيضًا إيصالَ رسالة بأنَّ الذين يأتون مهاجِرين إلى ما يعتقدونه وطنًا لهم، لا يأتون إلاَّ لأسبابٍ مَحدودة، فإمَّا أن يكونَ لرغبتهم في المال، أو الرفاهية، أو للهروب من نقمة المجتمع الذي يعيشون فيه عليهم، وعدم قبوله لهم؛ لأعمالهم غير المقبولة، ولأخلاقهم السيئة، ثُمَّ قال رسالته في نهاية الحلقة: "إنَّني - وللأسف - لم أجد مَن يقول: إنِّي أتيتُ لأرضِ الميعاد، وهاجرت إلى "إسرائيل"؛ لأنَّها وطني، فماذا يعني ذلك؟".
عرضتِ القناةُ البرنامجَ على أنَّه هذا هو الواقع، وهذه حريةُ الإسرائيليِّين، ولكنَّ المفاجأة ظهرت في اليوم التالي حين انتقدت الصُّحف ذلك البرنامج، وما جاء فيه، وأنَّه لا يُمثل حقيقةَ اليهود، بل هو إساءة للوطن اليهودي، ولانتمائهم له، ويصوِّرهم على أنَّهم لم يأتوا إلاَّ لمصلحتهم، لا لأنَّهم أحبُّوا وطنَهم، وأرادوا العودة إليه، وكلما ازدادت الانتقاداتُ، ازدادت فَرْحَةُ بنيامين؛ لإيصال رسالته أولاً، ثُمَّ لأنه أثبتَ نفسه كصحفي تلفزيوني، وتَميَّز في عمله، وكانت لهذه الانتقادات أثرُها في إرضاء القناة، وتَمسُّكها به بعد أن أثبت تَميُّزه.
اقترب موعد سفر بنيامين إلى أمريكا، فطلبت إلين منه أنْ يذهبَ معها ومع أبيه لاحتفالٍ في مَعبد يهودي، ولكنَّه رفض ذلك؛ بحجة أنَّه مشغول، ولكنَّها أصرَّت عليه، فابن أختها مِن بين المكرمين في هذا الاحتفال، الذي هو احتفال بتخريج دفعة من الأطفال في المرحلة الأولى من التعليم الديني اليهودي، فانتبه بنيامين للتعليم الديني، وخطر بباله أنْ يذهبَ؛ ليرى ما يتعلمه اليهود في دينهم، فهو لم يكن يهمُّه هذا الأمر؛ ولذلك لم ينتبه له يومًا، وحتى وإن سَمِع، فلم يكن يعير اهتمامًا كبيرًا لذلك.
وصل بنيامينُ مع أهله إلى المعبد، فانقبضَ صدرُه بمجرد دخوله إليه، فبدأ يلومُ نفسَه على ما فعل، ولِمَ يدخل هذا المكان الذي يشعُر بغربة كبيرة فيه، فكان يتخيَّل كأنَّ جميعَ مَن في المعبد ينظر إليه، ويرغبون في إخراجه من معبدِهم، فكيف يجلس بين أناسٍ لو عرفوا حقيقَتَه، لقتلوه وقطَّعوه إِرْبًا إِرْبًا، ولكنَّه تَماسك ومسك كاميرا الفيديو، التي يَملكها، وبدأ يصوِّر الاحتفالَ كلَّه، وطبعًا بدا هذا التصوير طبيعِيًّا، فكلُّ الأهل يصوِّرون أبناءَهم، فبدأ الحاخامات والطلاب يتكلمون عن ملخص ما تَمَّ من تعلُّم وتعليم، وما أهم ما يدعو له الدين اليهودي، فكانت دهشةُ بنيامين كبيرةً؛ لكثرة ما ذُكر العرب والمسلمون، ودعوة الحاخامات إلى تلاميذهم إلى قتل العرب، وحِلِّ ذلك، وأنَّ ذلك من التديُّن، وأنَّ وطنهم من النهر إلى النهر، وعلى اليهود تحقيق ذلك، حتى وإن أباد اليهودُ العربَ، فشعر بنيامين بالرُّعب، وهو يَجلس بينهم وكأنَّهم سيهجمون عليه ويقتلونه، ولم ينتهِ هذا الاحتفال إلاَّ ودم بنيامين قد جَفَّ.
سافر بنيامين إلى أمريكا، وأخذ الأشرطةَ جميعها معه، وكان قد كتب عليها أسماءً لأفلامٍ مشهورة، ووَضَع من كل فيلم أولَ خمسِ أو عشر دقائق في أول كلِّ شريط، حتى إنْ فُتِّشَ في المطار يظهر أنَّها أفلامُ سينما؛ لأنَّها لو كشفت لن يستطيعَ إرجاعها أبدًا.
عاد بنيامين لإكمال دراساتِه العليا، وبدأ بدراسةِ الماجستير، فكان موضوع الرسالة هو "اليهود وأحقيتهم في أرض فلسطين"، ولأنَّه يعرف أنَّ هذه الدراسة لم تكتمل إن درس على أيدي اليهود، وأيدي الأمريكيِّين المُتَصَهْيِنِينَ، فلذلك اختار أساتذةً يعلم قوتَهم وصدقهم وانتصارَهم للحق.
ثُمَّ بدأ العمل من جديد في الصحيفتين، وأخذ طابعًا جديدًا في الكتابة، وصار يتكلم عن اليهود وأخطائهم في فلسطين، ولكنَّه يتكلم بذَكاء، وبطريقة تقبلها الصحيفتان؛ لأنَّه إن تجاوز الحَدَّ المسموحَ لن تنشرَ له، بل ربَّما تطرداه من العمل كليًّا، ولكنَّ استمرارَ هذه الحال لَم يُعجبه، فبدأ بالبَحْثِ عن صَحيفة تنحاز للحق؛ ليقدرَ على الكلام بحرية أكثر.
علم سالِمٌ بكتاباتِ بنيامين الجديدة وبرامجه على القناة الإسرائيلية، فعرف أنَّه سَمِعَ لكلامه، ولكنَّه لم يستطعْ تفسيرَ رفضِه لهذا العمل عندما طلب منه ذلك، رغم أنَّه يقومُ بمثله اليومَ، ولو كان بطريق غير مباشر، ولكنَّه أعجبه على أي حال.
وكعادة سالم، فإنَّه يأتي ويأخذ زوجته ليلى من الجامعة، فأتاها في يوم، فإذا بها تقف مع مريم، فسَلَّم عليها، وسألها عن أخبارها وأخبار دراستها، خاصَّةً أنَّه لم يَرَها إلاَّ هذا اليوم منذ أنْ سافرت إلى سوريا؛ لعدم تصادف ذلك، وبعدها فتح موضوعَ بنيامين، وأخبرها بتغيُّره وتغير كتاباتِه، ولكنَّه طبعًا لم يُخبرها بأصلِه المسلم، فرَدَّت مريمُ متصنعةً عدمَ اهتمامها: "حتى وإن تغيَّر يظل يهوديًّا، فاليوم تجده معك، وغدًا ينقلب ضِدَّك".
ليلى: لا، يا مريم، نَحن في فلسطين لا نأخذ الأمرَ هكذا، فهذا يهمُّنا، فأي صوت يكن معنا، فهو في مصلحَتِنا، وخاصَّة أن هذا يهودي، فصوتُه بذلك أهم؛ لأنَّه يشهد على شعبه.
سالم: نعم، أختي مريم، فكلام ليلى صحيح، فنحن نَهتم بأن يكونَ هؤلاء معنا، ويكشفوا جرائِمَهم لشعبهم.
مريم: أنا لا أومِن بهذا أبدًا، فاليهودي يهودي، ولن يكونَ معنا أبدًا، ولا يمكن أن يتركَ نُصرةَ شعبه وينصرنا.
سالم: لا، لا، يا أختي، فالأمرُ لا يؤخذ هكذا، فاليوم نَحن في عصر الكلمة والرأي الحر، فإنَّ وجود يهود معارضين، فهذا يُفيدنا، فهم أعلمُ بعَوْرَاتِهم، فإن فضحوها، فهذا يكون لصالحنا.
مريم: ربَّما كلامك صحيح، ولكنَّ هذا رأيي، وربنا يُهيِّئ لنا ما يقربنا من النصر.
فأمَّن الجميعُ، ثم استأذن سالم وزوجته وذهبا، وبَقِيَت مريمُ في الجامعة؛ حيث بَقِيَ لها محاضرة ستحضرها، وهي على حالِها تنتظر، فإذا ببنيامين يأتي نحوَها، فخافت وقالت لنفسها: وهل عاد ليلاحقني؟ ألن أخلُصَ منه أبدًا؟ ولكن بنيامين أقبل عليها بابتسامة وراحة لم تبدُ عليه من قبلُ، وكان ما جاء به عدم صبره على بُعده عنها، فهو لم يَرَها منذ شهور طويلة، منذ اليوم الذي أخبرته فيه عن نقشِ القلادة، وبعدها لم يَرَيَا بعضهما؛ حيث انشغل بمعرفة هويته وأصله، والآن عزم على أن يراها من جديد، فهو لم يعُد ذلك اليهودي البغيض، فأصله مسلم، فشجَّعه ذلك على رُؤيتها، وأخذ رأيَها فيما حدث له؛ ليرى هل ستصبح أقرب إليه أو ستبقى بعيدة؟
اقترب بنيامين من مريم، فسَلَّم عليها، وسألها عن حالها وأخبار دراستها، فكان ردُّها كعادته ببرود شديد لا يُطيقه بنيامين، لكنَّه لَم يكترث ببرودها، وسألها: أَمَا زِلْتِ تريدين شراءَ القلادة؟ "قال هذا الكلام وهو يُمسك القلادة بيده، وقد أخرجها من تحت ملابسه".
نظرت مريم إلى القلادة وهو يُخرجها، ثُمَّ قالت: وهل تريد حَقًّا أنْ تبيعَها، ألَم تقُل: إنَّك لن تبيعَها بمالِ الأرض؟ ثُمَّ إن كنت ستبيعها لِمَ تلبسها؟
• أتدرين - يا مريم - كم لي وأنا ألبسها بهذا الشكل؟
• وما يدريني؟
• منذ أن عقلت وأنا أعلمُ أنَّ هذه القلادةَ لي وألبسها، ورافقتني كلَّ تلك السنين؛ ولهذا أحببتها جِدًّا، وهي عندي أغلى من رُوحي، فهي صاحبتني في كل لحظات عُمري، فاستغربت مريمُ قولَه، وكيف تكون هذه القلادة ليهودي، وعليها ذلك النَّقش العربي! ثُمَّ تابع بنيامين قولَه: كانت تصحبني في سفري وإقامتي، وصغري وكبري، وفرحي وحزني، ولم أكن أخلعُها إلاَّ إذا اغتسلت؛ خوفًا عليها لا أكثر، فكانت رفيقتي وأنيستي دومًا.
• ومن أين حَصَلْتَ عليها؟ وكيف ليهودي أنْ يَلْبَسَ قلادةً عربيةً منقوشًا عليها نقشٌ فيه عبارة "يا محمد، أنت مسلم"، فأنا لا أجدُ لهذا تفسيرًا.
• التفسير ببساطة هو أنَّني أنا محمد، وهذه رسالة من والدتي؛ لتصلَ لي يومًا ما.
• ولكن ماذا تقول؟ أجُننت أم ماذا؟ كيف لمسلم أنْ يصبحَ يَهودِيًّا؟! لا، لا، هذا ما لا أصدقه، ألَمْ تَعِشْ يهوديًّا، ثم ألست إسرائيلِيًّا، ثم لم تعُد تدري ماذا تقول؟ وظهر عليها الارتباك، لا، لا، ماذا تقول؟ لم أعد أفهم.
• على مهلك، هوني عليك، فالأمرُ أصبح بالنسبة لي طبيعِيًّا، فقد مضى شهورٌ على هذا الكلام، وبدأتُ أستوعبه، وأرجو أن تستوعبي الأمرَ أنت أيضًا، فأنتِ أولُ مَن قال لي محتوى هذا النقش، ومِن يَومِها بدأت رحلةُ بَحثي.
ثُمَّ قصَّ عليها الحكاية كلها، وهي تنظر إليه باستغراب ودَهْشَة وعدم تصديق، ثُمَّ أنْهى كلامَه قائلاً: والآن أنا في مرحلةِ اتِّخاذِ القرار، فإمَّا يهودي، وإمَّا مسلم، فصرخت به صرخة أفزعته: ماذا؟! بعد كلِّ هذا الكلام تَحتاج إلى مرحلةٍ لاتِّخاذ القرار؟ وكيف تصبر على بُعدك عن دينك، وعن أهلك، عن الدين السمح الرحيم الحق؟ لا، لا يُمكن لعاقل أنْ يصبرَ على هذا، بل على العكس، فعودتك للإسلام يجب أن تكونَ مباشرة، ولا تتردد أبدًا، فلا تدري متى تَموت، وعليك أن تنقذَ نفسَك، ولا تؤجِّل إسلامَك، فأنت عليك أن تكونَ في ظمأٍ لدينك، وشوق له بعد كلِّ سني البعد هذه، وظلم اليهود لك ببعدك عن أغلى ما كنت تَملك.
• يا إلهي! كم أنت راعبة! أيعقل أن ترعبيني بالموت، وأنا أكلمك عن بداية حياة جديدة لي، أرجوكِ كوني رحيمةً بي، فضَحِكت مريم، ثُمَّ قالت: لا أقصد هذا، ولكن أقصدُ أن أوصِّلَ لك رسالةً أنَّ الوقتَ يَمضي، وعليك أن تستغِلَّه، وتكسب لحظاتٍ أطولَ وأنت مسلم.
• لو كنت أعلم أنَّ الحديثَ عن موتي سيُضْحِكك، لكنتُ تَحدَّثت به منذ زمن، فهذه أول مرة تضحكين معي منذ علمتِ أنِّي يهودي، شعرت مريم بالحياء، ثم قالت على استحياء: لا يُمكن أن أضحَكَ بالحديث عن موتِك، ولكنَّها عِظَة نَعِظُ بها كمسلمين؛ لأنَّ الموتَ حقيقة واقعة، ولكن إن كنت فهمتها من منظور آخر، فأنا آسفة.
• كم أحب هذا الحياء، وهذا الحياء وحْدَه ما يلفت نظري بأيِّ فتاة، رُبَّما لأنِّي كنت أفتقده، ولكنَّ هذا الكلام زاد من استحياء مريم، فلم تتركه يَحكي على راحته، بل قالت: أرجوك، وإنْ تغيَّر حالك فديننا لا يتغير، فهذا الكلام لا يَجوز، فأرجو أنْ تُراعي ذلك، ولا تكون علاقتنا إلاَّ في حدود ذلك؛ يعني: كزملاء وللضَّرورة فقط، والآن أستأذن؛ لأنَّ مُحاضرتي قد اقتربت.
وبعد أن ذهبت كَلَّم بنيامين نفسَه مُستاءً، وقال: كزملاء وللضرورة فقط، لا يا مريم، أرجوك، فهذا كنتُ أطلبه وأنا يهودي، والآن تُعطيني إيَّاه وبصعوبة رَغْمَ مَعرفتِك أنِّي أقترب من الإسلام، يا رب، والله الإسلام جميل، ولكن في الوقت نفسه أرغبُ في أنْ ألتقي مع من أُحِبُّ، ثُمَّ تَبَسَّمَ بينه وبين نفسه وذهب.
كانت مريم في هذا اليوم من أسعدِ الناس، ولَم يَمُر بها يومٌ في حياتِها أجمل منه، فمن لَفَتَ نَظَرَها يومًا، واكتشفت أنه يهودي - جاء واعترفَ لها أنَّه من أصل مسلم، فكانت تفكر في كلامِه طوالَ الوقت، فلاحَظَ أبوها ذلك التغيُّر، فسألها عن سبب حالتها الغريبة، فأخبرته أنَّ أمرًا غريبًا حَدَث معها اليوم؛ ولذلك فهي تُفكِّر فيه من عظم استغرابها منه، وأنَّ ما سمعته اليومَ لا يُصَدَّق أبدًا، فأثار كلامُها فضولَ أبي خالد، وسأَلَها عَمَّا حدث؛ لتستغربَ بهذه الطريقة.
فقَصَّت على أبيها الخَبَر، ولكنَّها وهي تحكي لفت انتباهَها تغيُّر وجه أبيها وتأثُّره، فخَشِيَت عليه، ولم تفهم سبَبَ ما يَحدث له، فقالت له: أبي، ما بِكَ؟ هل حدث لك مكروه لا سمح الله؟ فلن أكمل القِصَّة ما دامت أثَّرَتْ فيك هكذا، ولا أستطيع فَهْمَ ما يَجري، فهو مُجرد شاب يَهودي عَلِمَ أنَّه مسلم، ولكنَّ أباها أصَرَّ عليها بإكمال القِصَّة.
ولما أنهت القِصَّةَ، سألها: لِمَ لم تخبره بها من اليوم الذي قرأت فيه نقشَ القلادة؟ فقالت: إنَّها لم تَهتم به، ورُبَّما شُغِلَت يومَها، فذهب عن بالها، فهي لم تَفهَم يومَها إلاَّ أنه يهودي وَجَد قلادةً عربية لا أكثر، ثم سألته: لِمَ كل هذا الاهتمام؟ ولكنَّه لم يردَّ عليها، وسكت طويلاً وهي تنظر إليه، وتنتظر ما سيقول؛ لأنَّها أحَسَّت به، وأنَّ عندَه ما سيقوله، ثُمَّ ما لبث أن صرخ، وقال: هو، هو، يا إلهي! هو محمد ابن أخي، كنتُ أعلم أنَّ هذا الشابَّ يُمثل لي شيئًا مُهِمًّا، يا إلهي! هو ابن عمك يا مريم، نعم ابن عمك.
ولكن - يا ربي - أيعقل أنَّه يهودي؟! يا إلهي! كيف أصبح يَهودِيًّا؟ رحمكِ الله يا أمَّ محمد، كنت تشعُرين بأنَّ شَيْئًا سيحدث له، ولكن هل كنت تشعرين بأنَّه سيضيعُ، ويأخذه يهودٌ؛ ليبدلوا دينَه؟! يا ربي، لك الحمد على نعمتك؛ لأنَّكَ حَفِظْتَ ذلك الولَدَ بأن هديت أمَّه لفكرة القلادة، ولك الحمد؛ لأنَّكَ لَم تُمِتْه بعيدًا عن دينه.
ثُمَّ نظر إلى مريم وهو بكلِّ هذه المشاعر التي يَمتزج فيها: الفرح، والخوف، والتوتر، وقال لها: نعم يا مريم، هو فعلاً ابنُ عَمِّك الذي فقدناه بعد موتِ أبويه، وكُنَّا نظُن أنَّه مات معهما، وأن جثته فُقِدَت؛ لسببٍ من الأسباب، ثم صار يَمشي في الشقة كالمجنون، ولا يدري ما الذي سيعمله، وكيف يتصرَّف، ومريم كل ذلك الوقت تسمع أباها، دون أن تستوعبَ ما يَحدث، ودون أن تصدق، فبالصباح كانت مفاجأة بنيامين وأصله المسلم، والآن حَدَثت مفاجأة أكبر من سابِقَتِها، فكيف يُتصوَّر أنْ تكتشفَ في النِّهاية أنَّ بنيامين هو مُسلم، وليس ذلك فحسب، بل هو ابنُ عَمِّها أيضًا؟!
ولكنَّها لما رأت أباها في هذه الحالة، قَرَّرت أنْ تتماسَك حتى تكون عونًا لأبيها في هذه الساعة غير المتوقعة، وصارت تُهدِّئه؛ لأنَّها خَشِيَت عليه من صدمة لا يَحتملها؛ نتيجةَ ما حدث له، وتُحاول بكلِّ ما تستطيع؛ لتُهَوِّنَ عليه الأمر.
ولكنَّ أبا خالد فاجأها في الوقت الذي تظن فيه أنَّه سيصاب بمكروه أنْ طَلَب منها تبديلَ ملابسها؛ لتذهبَ معه لبيتِ ابن عَمِّها الذي كان مفقودًا، ففوجئت بهذا الكلام، وقالت له: لا يُمكن - يا أبي - فالساعة الآن الثانيةَ عَشْرَة، فنحن في منتصف الليل، والوقت...
ولكن أباها لم يدعْهَا تُكمِل، وأجبرها على أن ترضخ لقوله بعد أنْ بَدَأ يصرخ، ويقول: لا يُمكن أن أنتظرَ إلى الغد، لا أستطيع... ليس بمقدوري أن أبقى هنا، وابن أخي حي يُرزَق، ولا أكلمه وأحتضنه، ولا ينبغي لي أنْ أجلسَ دون أن أنقذَه مما هو فيه، فعليه أنْ يعودَ إلى دينه وأهله.
كانت الساعة الواحدة بعد متصف الليل لَمَّا قُرِعَ جَرْسُ باب بنيامين، فتساءل: مَن يُمكنه أنْ يأتِيَه في مثل هذا الوقت، ولكنَّ دهشته لم تكن لتُوصَفَ عندما فتح البابَ، ورأى أبا خالد ومعه مريم، فأيُّ شيء يمكن أن يأتِيَ بهما في هذه الحالة؟ فكل ما خطر بباله لا يكفي لأَنْ تأتي مريم، فمَجيء أبي خالد يُمكن أن يصدق، ولكن أن تأتي معه مريم، فهذا الذي لم يجد له تفسيرًا؛ ولذلك وَقَفَ دون أن يدعوهما للدخول، وأبو خالد يقف أمامَ بنيامين وهو يرى أخاه أمامَ عَيْنَيْهِ، فبنيامين أخَذَ أغلب ملامح والِدِه.
ولَمَّا رأت مريم دهشةَ الاثنين، قالت: ألن تسمحَ لنا بالدُّخول؟ عندها عاد بنيامين إلى وَعْيِه، واعتذر، ثم أدخلهما، وقال وكلامه يرتجف: أهلاً بكما، سعدت بالزِّيارة رغم تفاجُئِي بها، ولكنَّ أبا خالد لا يهمه الآن كل هذا الكلام، بل طلب منه مباشرةً أن يرى القلادة، فأثار ذلك إزعاجَ بنيامين، ونظر إلى مريم وعاتبها على كَشْفِ سِرِّه، فاعتذرت له وبررت بأنَّه لم يقل لها: إنَّه سِرٌّ، ولم يطلب منها أنْ تُخفِيَه.
فصرخ أبو خالد قائلاً: تُخفيه! وكيف تُخفيه؟ هيا أرني القلادةَ، فخلعها بنيامين، وأعطاها إياه، ففتحها، ونظر إلى شكلها، فإذا المواصفات نفسها، والنقش نفسه اللذان وصفهما له أخوه أبو محمد، فصاح أبو خالد وهو يبكي: نعم، هي القلادة نفسها، التي كلمني عنها أخي أبو محمد، يا إلهي! أنت محمد، أنت ابن أخي، فنظر إليه واقترب منه وصار يتحسسه، وهو يقول: نعم، أنت محمد، أنت ابن أخي أحمد، يا إلهي! ما أكرمَك! أعدت إلينا ابننا، ولم تُضيِّعْه، ولم تُبقِه عند اليهود...
وكل هذا الكلام يَحدث وبنيامين واقف لا حَراكَ فيه، ولا يدري ماذا يفعل؟ وماذا يقول؟ ولكنَّه بعد أن أفرغَ أبو خالد مشاعِرَه وهو يصرخ ويبكي، قال بنيامين: ما الذي تقوله؟ هل أنت جادٌّ؟ وهل فعلاً أنت عمي؟ يعني: أقدر أن أصلَ لأبي وأمي، وأعرف لِمَ تركوني وتَخَلَّوا عني لأُرَبَّى ضِمْنَ عائلة يهودية.
فما أنْ سَمِعَ العَمُّ هذا الكلام حتى هدأ، وأعاد توازُنَه؛ ليكونَ على قدرِ المسؤولية، التي وُضِعَ فيها، ثُمَّ قال: تَخَلَّوا عنك! ثم مسك القلادةَ، وقال: هذه أكبرُ دليلٍ على أنَّ أهلَك لم يتخَلَّوا عنك قطُّ، وخاصَّة أمك التي طالما كنتُ ألومها على تصرُّفاتِها، وكنت أتَّهمها بالجنون، خاصَّة عندما علمتُ بقِصَّة هذه القلادة بالذَّات، وقلت يومَها: كيف لهذين المجنونين أن يُبذِّرا أموالاً لمجردِ خوفِ تلك المجنونة؟ وما الداعي لهذا الخوف؟ ولكني اليومَ اكتشفتُ أنَّ أمَّك كانت على حق، وأنَّ أباك كان يصدق مشاعِرَ أمِّك؛ لأنَّه يشعر بها؛ لحبه الشديد لها، وإحساسه بها، فكم كانت مشاعر أمك صادقة! فقال بنيامين: ولكن كيف ثبت لك هذا، وأين هما؟
• رحمهما الله.
• ماتا وهما ذاهبان إلى المطار؛ ليعودا إلى سوريا بعد أن كان أبوك قد صَفَّى جميعَ أعماله هنا؛ بناءً على طلب أمِّك حتى يُربِّيَاكَ في سوريا في مُجتمعٍ مسلم؛ ليُحفظَ دينُك، ثُمَّ لتكونَ ناصِرًا له، وهما في ذلك الطريق أصابهما حادثٌ في السيارة، التي كانت تَحملهما وماتا، ثُم تسلَّمنا جثتيهما، ولكنَّنا لم نستَطِعْ يومَها معرفةَ أين ذهب وَلَدُهما، الذي هو أنت يا محمد.
مريم: عندها وعلى الأرجح في تلك الساعة، وفي الضَّوضاء التي حصلت كان هناك مَن خَطِفَك هو وزوجته، فأخذاك ورَبَّياك وغَيَّرَا دينَك.
أبو خالد: يا لَهم من مُجرمين هؤلاء اليهود، حَتَّى الدين إن قَدَروا على سلبه يسلبونه، فكيف تَجَرَّؤوا على ذلك؟ وكيف استطاعوا أن يَحرموا طفلاً من دينه، ويَسرِقانه ليُهوِّدانِه؟ ولكنَّ أبا خالد سكت لما رأى هو وابنته بنيامين والدُّموع تَنهَمِر من عينيه، ثُمَّ ما لبث أنْ أصبحَ يَجْهَش بالبكاء، فتركاه هكذا قليلاً؛ ليفرغَ مِمَّا يشعر به، ولما هدأ نظر إلى عَمِّه وتكلم بانكسار: هل كانت تخاف عليَّ، وتُريدُني أن أنصرَ الإسلام؟
• لَمَّا كان أخي يتكلَّم عن زَوجَتِه وخَوفِها على ابنها، كنت أقول: إنَّها جُنَّت، ولم تستوعب أنْ يَرزُقَها الله الولَدَ بعد تأخُّرها في الإنجاب لأكثرَ من عشرين سنة.
• وهل تأخَّرت إلى هذا الحد؟
• نعم، وكان أبواك قد تأَخَّرا في السنِّ حينَ رُزِقَا بِكَ، فأُمُّك كانت قد تَجاوَزَتِ الأربعين، فكان يصف لي أفعالَها، وكيف تقرأ القرآنَ؛ لتُسمعك كلامَ الله؛ حتى تألَفَه وتُحِبَّه، وتُكلِّمك عن الإسلام، حتى لما احتل اليهود فلسطين بَعَثَ أخي يومَها رسالةً لي، وكلمني عن أَلَمِه لهذا الحدث المُفجع، ثُمَّ بدأ يقول في رسالته: إنَّه من عِظَم تأثُّره، صار هو وزوجته يُكلِّمانِكَ عَمَّا حدث، وأذكر يَوْمَها أن سخرت من كلامِهما عندما قرأته، وأنَّهما يُوصِيانكَ بفلسطين ونصرتها.
• ثُمَّ بعد كل هذا الخوف صِرْتُ يهوديًّا، أُعادِي فلسطين، بل أُعادي الإسلام، كيف سيغفر الله لي؟ وكيف سأنجو من فعلتي؟
• لا يا بني، لا تقل هذا، فأنت لا تَعْرِف الله - سبحانه وتعالى - ولو كنت تعرفه، لعلمتَ أنَّه رحمن رحيم، يغفر الذنبَ، وخاصَّة لمثلك، أنت نشأت في بَيْتٍ يهودي رَغْمًا عنك، وحين تُسلم يَجُبُّ اللهُ عنك ما قبله، ويغفر كُلَّ ما سبق، فتصبح مخلوقًا جديدًا تُحاسب بعدها على أفعالك؛ ولهذا عليك بعد أن علمت دينَك، وتيقَّنْتَ أنَّه الحق - أنْ لا تتكبر وتؤجل، فكُن ذليلاً لله، فالله أعطاك العقلَ لا لتعطي نفسَك كُلَّ الوقت لاتِّخاذ قرارك، بل لتسخره لمعرفته وزيادةِ الإيمان به.
• أفهم كلامَك جَيِّدًا، وأنا لا أتكبر، بل وَدِدْتُ أن أعلمَه جَيِّدًا؛ لأدخلَ فيه بيقين.
• لا ألومك، ولكنَّ العالِمَ نفسَه يَموت وهو يتعلَّم، فإن أردْتَ أن تَعرِفَ الإسلام، فلن يكفي عمرك، ولذلك ادخُل فيه، وكلَّ يوم تعلَّم منه أكثر.
• سكت قليلاً، ثُمَّ قال: ما زلتُ أفكِّر في أمِّي التي حاولت غَرْسَ الإسلام فِيَّ، فالآن علمتُ مَن تلك المرأة التي تأتيني في مَنامي، لم تكن إلاَّ أمي، فهي محفوظة في عقلي الباطن، فأنا لم أسْتطِعْ نسيانَها؛ ولهذا كنت أراها دومًا، فهي رفيقتي في دَربي، ثُم نظر إلى مريم، وقال: هي تُشبِهُكِ في لباسها، فأنا لم أرَ وجْهَها جَيِّدًا؛ ولذلك لَمَّا رأيتُكِ شعرت أنَّ لك دورًا في حياتي، ولم أكن أعرف لماذا؟ ولكن كنت أقول: ربَّما لأنَّك تُشبهينَها أثَّرْتِ في نفسي.
مريم: هي ربَّما كانت تلبَس مثلَ لباسي؛ لأنَّنا نلبَس اللباس نفسه في سوريا، ولكن اعذرني، فلم يكن لي دَوْرٌ كما كنتَ ترغَب، ولكن ما يشفع لي اتِّباعي لديني، فديني لم يكن يسمح.
بنيامين: بل كان لك كُلُّ الأثر، فأنت من قرأ لي النقش.
أبو خالد: الآن وأهمُّ من كل هذا الكلام، عليكَ أنْ تنطقَ بالشهادة، والآن دون تأخير، فلم يَعُد هناك أيُّ مبرر للتأخير.
بنيامين: أرجوك عمي، اصبر عَلَيَّ، فأنا خائفٌ من هذه الكلمة، فلي أكثر من عشرين سنة وأنا يهودي، فكيف تُريدُني أنْ أُغيِّر حياتي في لحظة.
مريم: وكيف هي لحظة، فقد مضى لنا شهورٌ كثيرة منذ أنْ عَلِمْنا بذلك النقش؟ فلا تتردد، وعُد إلى حقيقتِك ودينك وأهلك.
أبو خالد: نعم يا بني، لَمْ يَعُد هناك داعٍ، فكما قلت لك: فلا تجعل للكبر دورًا في اتِّخاذ قرارك، وكن وَفِيًّا لدينك الحقيقي، هيا قل ورائي: أشهد... فوجد بنيامين نفسَه يُردِّد وراءَه: أشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، وهكذا عاد بنيامين؛ ليصبحَ مُحَمَّدًا، ويرجع إلى دينه الأصلي، وعَرَفَ أهلَه، وعاد لحضنه العربي المسلم، فشَعَرَ لأَوَّلِ مَرَّة بالأمان والدِّفء، وقام أبو خالد ليحتضِنَ ابنه الغالي، الذي فَقَده عندما فَقَدَ أخاه أحمد، فكانت عودةُ محمد ابن أحمد وكأنَّها عودة لأحمد نفسه، فظَلَّ يُقبِّله ويَحتضنه ويبكي هو ومحمد لوقتٍ طويل.
جاء موعدُ صلاةِ الصبح والجميعُ ما زالوا مُستيقظين، فطلب أبو خالد من ابن أخيه أنْ يَغْتَسِلَ بعد إسلامِه، ويتوضأ ليذهبَ الجميعُ إلى أقربِ مسجد؛ ليصلوا فيه، فذُهِلَ مُحمد من هذا الكلام واستثقله، فكيف يذهبُ إلى المسجد، ويُصلي بين الناس، فمنذ أيام فقط كان في مَعبدٍ يهودي، واليوم يدخُل المسجدَ، ثُمَّ وإن ذهب فهو لا يعلم كيفيةَ الصلاة؟
فهَوَّن أبو خالد على وَلَدِه كلَّ هذه المخاوف، ووَعَده أنْ يَشْرَحَ له كيف يُصلي بشكل مَبْدئي، فهو لا يَحفظ من القرآنِ شيئًا، وقال له: إنَّ الصلاةَ الجهرية لا داعِيَ أن يقرأَ فيها، ينصت فقط للإمام، ويكبر معه، وهكذا أقنعه وذَهَبوا جميعًا إلى المسجد، دخل محمد المسجد، ولأول مرة يشعُر وكأنَّه يدخل الجنة، وأحَسَّ بسعادة لم يَذُقِ طَعْمَها من قبلُ، ثُم بدأ يُصلِّي، فصار يَرْجُف، ولا يدري هل هو خوف أو خضوع وتذلل لله القهار أو رهبة.
ثم أتتْ صلاةُ الفريضة، وبدأ يقرأ الإمامُ فكان وكأنَّه يسمعُ كلامًا طالَما سَمِعَه، فتذكر أُمَّه وأم سليم وأم إسماعيل، وكيف كنَّ هنَّ من أسْمَعْنَه هذا القرآن، ثُمَّ بدأ يبكي ويبكي حتى انتهتِ الصَّلاة، وخرج من المسجد، وقد اطمأنَّتْ نفسُه وارتاحت.
عاد الجميع إلى البيت، وهم في طريق العودة قال محمد لعمه: تعرف - يا عمي - لَمْ أرَ أجملَ من الإسلام، فاليومَ أشعُر بنفسي، وأشعر بانتمائي، فطوال عمري كنت أشعُر بغربة أكرَهُها، وأشعر بضيق بسببها، لكنِّي اليومَ أشعر بأنَّ لي أهلاً وناسًا، وأشعر بجميع المسلمين أهلي وناسي على عكس ماضيَّ، فكنت أشعُر أني وحْدي لا ناصِرَ لي، وكنت دائمًا أبْحث عن المصلحة بيني وبين مَن أتعامل معه، وإن لم أجدْ أيَّ مَصلحة بيننا، كنت أخاف مِن تعامُلي معه؛ لأنَّ عدمَ حاجته لي يَجعلني مستهدفًا لديه.
أبو خالد: الحمد لله الذي أنقذَك، وأعادك لبيتك الحقيقي.
مريم: انسَ الماضي، ولا تتذكَّره إلاَّ لتحمدَ الله؛ لأنَّه أنقذَك وأنعم عليك.
محمد: الماضي لا يُمكن أن يُنسى، فهو موجود في ذاكرتي، فهو محفوظ لا يمكن نسيانه، ثم طلب منهما أنْ يَكتما إسلامَه؛ لأنَّ الوقتَ لَم يَحِنْ بعدُ ليُعلنَ ذلك.
كان محمد لا يزال يبعث بالتقارير للقناة اليهودية، ويعمل البرامجَ، فعمل برنامجًا وثائِقِيًّا آخر تناوَلَ فيه آمالَ الإسرائيليِّين في بَقائهم في فلسطين، فكان مضمونُ البرنامج يُوصِّل رسالةً أنَّ "إسرائيل" مهما بقيت، فهي إلى زوال، وكان بنيامين (محمد) يتعَمَّد أنْ يَأْتِيَ بيهود، سواء كانوا مفكِّرين أم مُحللين وجمهور، وكانوا جميعُهم لديهم الإحساس نفسه بزوال "إسرائيل"، وكان لهذا البرنامج صداه المُزعِج في الشارع والصُّحف الإسرائيلية.
ثم إنَّه بدأ يُجهِّز لقضيةِ إقامة ما صارت تُسَمَّى أمامَ العالم كله بإسرائيل، فالتقى مع كل معارضٍ أكبر من المعارض الذي قبله، وتكلموا جميعًا عن خطأ اليهود في إقامة هذا الوطن، ثُمَّ جاء بحاخامات لا يؤمنون بالصِّهْيَوْنِيَّة مطلقًا، ويؤمنون بعقوبة اليهود وحرمانِهم من هذه الأرض، وعمل برنامَجًا قَوِيًّا كانت إدارة القناة مُحتارة في قَبوله من عدمه، ولكنَّها في النِّهاية عرضته بِحُجَّة الديمقراطية وحرية الرأي، خاصَّة أنَّه من صحفي يهودي.
ولكنَّ هذه الديمقراطية لم تكُن على أحسنِ حال، وظهرت هنا على حقيقتها، فهي مَوجودة ما دامت بَعيدة عن كَشْفِ حقيقة اليهود، وكشف خَطَئِهم في سلب ما ليس لهم.
وبعد كَمٍّ كبير من الانتقادات والتهديدات للقناة، قامت القناة بفَصْلِ بنيامين عن العمل، وبات يشعُر أنَّه مقيدٌ لا يستطيع العملَ بِحُرِّية، خاصَّةً أن الصحيفةَ الصغيرة التي كانت أول مَن عمل فيها طردته منذ زمن؛ لأنَّها لم تقدر على مُعاداة اليهود، وتَحَمُّل تَهديداتِهم، وأمَّا الصحيفة الكبرى، فقد صارت تُضيِّق عليه، ولا تسمح له بكتابة أيِّ شيء، بل أصبحت تُدقِّق في أيِّ كلمة يكتبها، ثُمَّ جاءَتْها الأوامر بفَصْله، ففصلته...
وكانت الاستخبارات الإسرائيلية قد بدأت بمُراقبته، وعَلِمَت أنَّه قد أسلم، وأوصلت له تَهديدًا: إن بَقِيَ على الإسلام، ولم يعد لدينه، فإنَّه لن يهنأ أبدًا.
هنا ذهب إلى عَمِّه وكَلَّمه عن كلِّ ما يَجري معه، فنصحه بأنْ يُعلِنَ إسلامَه، ويترك هؤلاءِ نِهائِيًّا، ويُجاهدهم كمسلم، ثُم عَرَض عليه أنْ يعودَ إلى سوريا بعد أن يقيمَ دَعوة؛ ليُثبِتَ نَسَبَه لأبيه.
هنا طلب محمد من عمِّه أن يُزوِّجَه مريم، وقال له: إنَّه مُحتاج إليها في هذه الأيام، ويشتاق لأَنْ يَكونَ له أبناء يُوحِّدون الله، وينصرون دينَه، فوافق عَمُّه مباشرةً، وقال له: إنَّ موافقته هي أمر طبيعي، فوقوفهما معه هو وابنته واجبٌ عليهما.
أخبر أبو خالد ابنته، فشَعَرت بسعادةٍ كبيرة، ولكنَّها قالت لأبيها: إنَّها تخشى أن يكونَ إسلامُ محمد ضعيفًا، فهو عاش في أغلبِ حياته يهوديًّا، ولكنَّ والِدَها لامها لومًا شديدًا، وتعجب من قولها، وكيف تتكلَّم هكذا وابن عمها في أمسِّ الحاجة إليهما، وإن كان إسلامُه قريبًا وفيه ضعف، فعليهما أنْ يُعيناه على الثبات، فكيف وهو الآن يُقاوِم اليهودَ، ويُحارِبُهم ويَكْشِفُ أفعالَهم، حتى وصل الأمرُ لِأَنْ يُهَدِّدُ اليهودُ محمدًا.
فما أن سَمعت مريم هذا الكلام، حتى وافقت مباشرةً، فتزَوَّج محمد مريمَ، بعد أن أعلن إسلامَه، فلم يَعُد لإخفاء إسلامِه داعٍ بعد أنْ عَلِمَ اليهودُ بذلك.
حدث الزِّفاف وجاءت عائلةُ مريم، وحضرت الزفافَ، وفي هذا اليوم اتَّصل بأُمِّه إلين وأخبرها بزفافه، ففُوجِئت، خاصَّة لما قال لها: إنَّ زوجته مُسلمة، فجُنَّ جنونها، وقالت له: كيف له أن يتزوجَ بِمُسلمة وهو يهودي، فأخبرها الخبر الذي لم تشأْ أنْ تَسْمَعَه في حياتها، وأنَّه قد أسلمَ، بل عاد لدينه الحقيقي، وقَصَّ عليها قِصَّةَ القلادة، التي كانت تكرهُها كثيرًا، ولامها على سَرقتها هي وأفخاي إيَّاه، وكيف غَيَّرَا دِينَه وهَوَّدَانِه، ولَمَّا سألها عن حقيقةِ ما جرى، حَكَتْ له ما فعلت مع أفخاي؛ لأنَّها لم تعُد تقدر على الكذب، فأيقنَ أنَّهما سَرَقاه فعلاً، وحَوَّلاه إلى اليهودية.
حَكَت إلينُ لزوجِها ما سَمِعَته من مُحمد، وقالت له: إنَّ القلادةَ كانت هي العدوَّ الأكبر، الذي فَضَحهما، فشَمِتَ أفخايُ بِها، وقال لها: إنَّ غَباءَها هو من أوصلهما إلى هذا اليوم، فكيف تأتي بِمُسلم وتُربيه وتُنفق مالَها عليه، ثُمَّ أخبرها بأنَّه لم يُحِبَّ هذا الوَلَدَ يومًا، وكان بِمَثابة مُصيبة أُجْبِرَ على تَحمُّلها وتقبُّلها رغمًا عنه، فاستشاطت إلين غضبًا من لومه لها وشَمَاتَتِه بها، فصارت تسبه ويسبها إلى أن انتهيا إلى اختيارِ الطلاق، فطَلَّقَها وافترقا.
عمل محمد في صحيفة عربِيَّة كانت تصدر في أمريكا، وقَرَّر أن يَحكي حكايته للعالم في سلسلةِ مقالات سَمَّاها: "مسلم عاش في بيتٍ يهودي"، فحكى في هذه السلسلة عن أبيه وأُمِّه وكيف غرست أمُّه الإسلامَ فيه، ثُمَّ كيف قَبِلَ رجلٌ وامرأةٌ يهوديان، ورضيا أنْ يَظْلِما طِفْلاً مُسْلِمًا، ويُغَيِّرا دينَه، ويُهوداه، بل يُربِّيَاه على الكُره والحِقْد على أهْلِه وناسه، ثم حَكى قِصَّة القلادة وكل ما حدث له، وبَدَأتِ القصةُ تنتشرُ في الصُّحف العربية.
وأصبح مُحَمَّدٌ صحفيًّا مَشهورًا تُنتظر مقالاتُه الكاشفة لليهود، فهو أعلم الناس بهم، ويَروي قِصَصًا من ذاكِرَتِه، ثُمَّ أتى الوقتُ الذي قَرَّر فيه أن يَبُثَّ الصورَ والأشرطة التي صَوَّرَها لأعمال اليهود في فلسطين، فأَرْسَلَ أولَ شريط لقناةٍ يَثِقُ بحرفيتها وحيادها، وفِعْلاً عرضت هذه القناةُ الشريطَ، وكان هذا الشريط هو شريط إحراق شجر الزَّيْتون، وما حدث بعدها من اعتداءٍ للشُّرطة والمستوطنين على الفلسطينِيِّين، وكانت نتيجة عَرْضِ القناة للشريط أنْ غرمت مِئاتِ آلاف الدُّولارات، فكَفَّت عن قَبولِها لأيِّ شريط يُسيء لليهود، ولكنَّ محمدًا لم يَيْئَس، وظَلَّ يَبحث كُلَّ يوم، ويعرض شريطًا من الأشرطة.
رُزِقَ مُحمد بثلاثة أولاد، فالأَوَّلانِ كانا توْءَمين صَبِيًّا وبنتًا، وسَمَّاهما أحمدَ وزينبَ؛ ليَظل يَذكُر أبويه اللذين جاهدَا وقُتِلاَ في سبيل أنْ يُؤَمِّنَا له عيشةً في سبيل الله، وبعد سنة تقريبًا كان ميلادُ ابنهما الثالث؛ ليكونَ الأولاد الثلاثة وكأنَّهم توائم، فسَمَّاه مُحمَّدٌ "صلاح الدين" تأثُّرًا بتلك الطفلة سلوى، التي ما زالت موجودة معه هي وأمُّها وإسماعيل.
فبعد عَودَتِه لدينه وزَواجه أتى بِهم جَميعًا؛ لتكونَ أمُّ إسماعيل رَفِيقَةً، وأُمًّا له ومُرَبِّية لأطفاله مع مريم، خاصَّة أنَّ الأولادَ الثلاثة صاروا وكأنَّهم توائم، سَمَّى محمدٌ ابنَه بصلاح الدين؛ لأنَّه تَعَلَّم من سلوى أن ينجبَ الأطفالَ لأجل الدين وللدين فقط، واتَّفَقَ مع زوجته التي تأثَّرت بقِصَّة حماتِها أن يُربُّوا أبناءَهم على أن يكونوا ناصرين لدينِهم خادمين له، ويكونوا كلهم في سبيل الله، وأخذ العهدَ عليها بأنْ تَسْتَمِرَّ كذلك، خاصَّةً بعد أنْ دَخَل الخوفُ قلبَه بأنَّه من الممكن ألاَّ يستمرَّ معهم، مثل خوف أمِّه عليه.
ولم ينشأْ هذا الخوفُ إلاَّ بعدما حدث له حادثٌ؛ حيث حاول بعضُ الأشخاصِ اغتيالَه، وذلك قبل وِلادة ابنه صلاح الدين، وحدث ذلك حين كان عائدًا إلى بيته، فهَجَم عليه شخصان، وحاولا طَعْنَه بسِكِّين لولا أنِ استطاع الهربَ منهما، ورَكِبَ سَيَّارتَه، وأسرع بها حتى ابتعد عنهما، فخبأ ذلك عن مريم لأيام، ولكنَّه أخيرًا قَرَّر إخبارَها، وعَلَّل لها ذلك بأنَّه أمرٌ واقع لا ريبَ فيه؛ لأنَّ اليهودَ لن يتركوه، وهو يريد أن يوصيها بوَلَدَيه وبالوَلَد الذي تَحمله، وطبعًا كان "صلاح الدين".
وأوصاها أن تَجعلهم لله، ولا تبخلْ على الله بِهِم، بل تُربِّيهم ليكونوا ناصرين خادمين لدين الله، ورَغْمَ ضيقِ صَدْرِ مريمَ مما سَمِعت وخوفها على زوجها وحبيبها، لكنَّها وَعدَته أنْ تَحْفَظَ له أبناءَه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
أنهى محمدٌ قِصَّتَه التي يَكتبها في الصَّحيفة، ووصل إلى أنْ حكى قِصَّة إسلامِه بعد مَعرفته بِحقيقته، ثُمَّ إنَّه نشر آخرَ شريط عنده، وهو الاحتفال في المعبد، وكل ما جرى فيه، وكلمات اليهود وكرههم وتَهديدهم بمعابِدهم للعَرب والمسلمين، وتربيتهم لأبنائهم على هذا الحِقْدِ ودَعوتهم الصَّريحة للقَتْل، وطَبْعًا فيه أطماعهم، وحلمهم بأنَّ وَطنَهم من النَّهر إلى النهر.
انتشر الشريطُ وكان مثلَ الثَّورة على اليهود، والفَضْح لهم، وأَثارَ جَدَلاً كبيرًا، وتكلمت الإذاعاتُ والقنوات عنه.
في هذه الأيام المُخيفة لكل مَن حول مُحمد عليه، قرع جَرْس بَيْتِه الجديد، الذي سكن فيه بعد إعلانِه لإسلامه؛ لأنَّه خرج من بيت أفخاي؛ لأنَّه لم يَعُد له الحق أن يَسكنَه، فلَمَّا فتح البابَ فُوجِئ بالضَّيْفِ الذي كان أمَّه إلين، فسُرَّ بِها كثيرًا، فهي مَن رَبَّته مهما حصل، واستقبَلَها أجْمَل استقبال، ولكنَّه لم يقدر أن يسلم عليها، فاعتذرَ لها، وبَيَّن لها أنَّ السببَ هو مَنْعُ دينه له، فهي تبقى غريبة عنه.
ثُمَّ عَرَّفها على زوجته وأبنائه، فحَمَلت أبناءَه وكأنَّهم أبناؤها، فهي ما زالت تَعُدُّ مُحَمَّدًا ابنَها، فرأى محمدٌ بإلين ذُلاًّ لَم يُرِد أن يراه في المرأة التي رَبَّته حتى وإن ربته على طريق خطأ، ولكنَّها ربته بحسب قناعَاتِها؛ ولهذا عَذَرها، فلَمَّا رأى ضَعْفَها زاد من إحسانه إليها، وتقريب أبنائه منها، حتى تشعر بالأمان، وبعد ساعاتٍ من الكلام واللَّعِب مع الأطفال، وعندما شَعَرت إلين بأنَّها لم تَخْسَر بنيامين، بدأت تتكلم في الأمرِ الذي جاءت من أجْلِه، وهو خوفها على محمد بعد كلِّ ما يَحكيه ويكتبه ضِدَّ اليهود.
فرَدَّ محمد وقال: يا أمي، لا تقلقي، فأنا أعمل ما أقتنع به، وهو في صُلب ديني، وأُومن بأنِّي مأجورٌ عليه، ثُمَّ أنا أنتصرُ للحق، وأحارب الظُّلم والطُّغيان، وأنتصر للضَّعيفِ، وأحارب الظالِمَ الآخذَ للحقوق بقوته، فسَعِدَت إلين لمناداته لها بأمي، فهي بَقِيَت أمه، حتى وإن عاد لدينه، ثم أخبرتهم أنَّها تعيش في بيتها نفسه الذي كان يعيش فيه مُحمد، فهو لها، وليس لأفخاي، وقالت لمحمد: إنَّها ستبقى في أمريكا من أجلهم، وتبقى لترى أبناءه، فوَعَدها أنَّه سيبقى يبرُّها، ولن يَحرِمَها من أبنائه.
بعد أيام عاد محمدٌ مسرورًا إلى بيته، وبشَّرَ زوجَتَه بأنَّه أتَمَّ حِفْظَ القرآن الكريم، الذي بدأ يَحفظه من أول يوم أسْلَم فيه، وأصبحت لُغته العربية قَوِيَّة، فهو كان يُصِرُّ على الكلام بِهَا في البيت؛ ليُتقِنَها، وليخرج الأولادُ مُتقنين لها، ولا يبتعدوا عن لُغة دِينهم وقرآنهم، فسَعِدَت مريمُ، وباركت له الحفظ، ووعدته بأنَّها ستعمل له احتفالاً كبيرًا، وستعمل له الكثيرَ من الحلوِيَّات الشامية؛ بَهْجَةً بحفظه.
وكانت أمُّ إسماعيل تسمَع كلامَهما، فجاءت وباركت الحفظَ، وبدَوْرِها وعدته أيضًا بأنَّها ستعمل له حلوياتٍ مِصْرِيَّة؛ لأنَّها تريدُ أن تَحتفل بابنها؛ لحِفْظِه القرآنَ الكريم، فكان محمد سعيدًا جِدًّا بهذه الأُلفة التي يعيش فيها، حتى إنَّه قال لأم إسماعيل: كم أنا سعيد بك يا أمي! وكيف لا أسعد وأنا أرى لي أُمًّا تَحتفل بي في مناسبةٍ كهذه المناسبة العظيمة؟! ثُمَّ نظر لها، وقال: أنت فعلاً أجملُ ما في هذا البيت، فصاحت به مريم: ماذا؟ وأنا أين ذهبت؟ لا، لا، أنا فعلاً صِرْت أغارُ من أمِّ إسماعيل، فرَدَّت أمُّ إسماعيل بحنانِها المعهود: وهل تغارُ البنتُ من أمِّها؟ فدَمِعَت عينا مريم، وقالت: لا طبعًا، وفعلاً أنت أعظمُ أمٍّ، فقال محمد: الحمد لله، لم أعُد أحتاج لتبرير مَوقفي بعد صُلحكما.
مريم: صُلحنا! وهل نتخاصم لنتصالح؟! فأمُّ إسماعيل هي أمٌّ ثانية لي.
أم إسماعيل: إذًا بعد هذا الكلام، فأنتما تستَحِقَّانِ أطيبَ المأكولات، فاستعدا للتخمة.
محمد: بالتأكيد سيحدث ذلك ما دُمتما تَعِدَانني بكُلِّ هذه المأكولات، ولكني أريدُ أمرًا بَسيطًا وهو أنْ أدعوَ أمي إلين؛ لحضور الاحتفال.
مريم: وهل ترضى أنْ تَحضُر احتفالاً بحفظ القرآن الكريم؟
محمد: سأدعوها وهي تُقرِّر، فقام واتَّصَلَ بها، فكانت سعادَتُها كبيرةً؛ لأنَّه تذَكَّرها في مثل هذا الاحتفال، ووعدته بأن تحضر.
ثُم أخبرهما بأنَّ سَالِمًا يزور أمريكا، وسيذهب لرُؤيته قبل أن يبدأَ الاحتفال، فذهب ليلتقيَ مع سالم الذي أنْهى دراسَتَه، وعاد منذ سنتين إلى فلسطين؛ ليُكْمِلَ جِهادَه في تقديم المساعدة لجرحى الحروب والاعتداءات.
كان محمدٌ في طريقِه للقاءِ سالم، فكانت دهشتُه كبيرة عندما رأى سيلينا صاحبته اليهودية في الماضي، فجاءت وسلمت عليه بحرارة، ولكنَّه لم يقبلْ أن يسلم عليها، ولَم يرضَ أنْ يُصافِحَها، فظهر الغيظُ على وجهها، فبَرَّر فعلَه لها بأنَّ دينَه لا يسمح بذلك، وهو مُضطر لأَنْ يَتَّبِعَ تعاليمَ دينه؛ لأنَّه اختاره ويُحِبه، وبعد حديث ليس بالطويل طلبت أنْ تَلْتَقِي هي وهو وأفيغدور، وأخبرته أنَّها هي وأفيغدور مخطوبان، فقال لها بسخرية: إنَّهما يليقانِ لبعض، فزاد ذلك من غَيْظِها وعَزمها على فعل ما جاءت من أجله، وهو الذي شَكَّ فيه محمد، وسألها: كيف وصلتِ له؟ فردَّت: إنَّها صدفة.
• كيف صدفة، والصدفة يُمكن تصديقها بكلِّ الأحوال إلاَّ بهذه الحالة؟
• شئت أم أبيت، فإنَّها صدفة، ولم أتوقَّع أن أراك قطُّ، ولكن كوننا التقينا فإنِّي أطلب منك أنْ نلتقي بعد ساعتين أنا وأنت وأفيغدور.
• بعد ساعتين! وهل حاجتكما لا يُمكن أن تنتظر إلى الغد؟
• طبعًا لا، فأفيغدور لديه معلومات تَهمُّك عن سارة التي كما علمت أنَّها أختك.
• هي ليست أختي، فأنا عربي مسلم، وهي أمريكية يهودية.
• على كلِّ حال، فهي أختك ولو في الماضي.
• وما هذه المعلومات؟
• المعلومات إن كشفت فسَتُؤذي إلين.
• أمي!
• أليست هذه أمريكية وأنت عربي، فكيف هي أمك؟
• كما قلتِ في الماضي، ولكن كيف ستؤذيها؟
• المعلومات بالتفصيل عند أفيغدور، ولا أقدر أنْ أفيدَك بشيء إلاَّ معلومات تتحدث عن دَوْرِ إلين في مَقتل سارة، والأدلة عند الشُّرطة، ولكن هناك تفصيلات لا يقدر أنْ يطلعَك عليها إلاَّ أفيغدور، أفتعلم أنَّه أصبح صَحفيًّا كبيرًا؟
• صحفِيًّا كبيرًا! ثُم تَبَسَّم ساخِرًا، وقال: لو رأيت بعيني، لَمَا صدقت، ولكن سأكون على الموعد بإذن الله؛ لأرى ما عندكما، وإن كنتُ متأكِّدًا أنَّ أمي لم تكن تعرفُ سارة مُطلقًا.
ورغم عدم اقتناع محمد بكلامِها، ولكنَّه أكَّد لها بأنَّه سيأتي للعنوان.
ذ