ويصفه بما ليس فيه، فأصبحت مقالاتُه عبارةً عن سبٍّ للإسلام لا أكثر، فكان لذلك الأثر الكبير في زيادة مَبيعات تلك الصَّحيفة أكثر وأكثر؛ مما دفع الصحيفة إلى تكريم بنيامين؛ لأنَّه سبب هذه الزيادة في المبيعات، وفي يوم التكريم اتَّصلت به إحدى الصُّحف الكبرى والمشهورة، فطلبت منه أن يكونَ له زاوية في صحيفتها، وله الحرية الكاملة في الكتابة، وبذلك يُصبِح كاتبًا في أشهر الصحف، وهو لم يكمل دراسته، ولا زال طالبًا في الجامعة.
أنهى بنيامين يومَه التكريمي هذا، وعاد إلى بيته وهو في طريقه يُفكِّر فيما حدث له، وهو مُنقبض الصدر، رَغْمَ هذا التكريم، وأعاد إلى ذاكرته كلَّ ما حدث له: التكريم، ودعوة الصحيفة له، وكل هذا الاهتمام به، وبدأ يتساءل بينه وبين نفسه: أشتْمُ الإسلامِ له كل هذه الأهمية، ويستحق كل هذا التكريم والاهتمام عند هؤلاء الناس؟ وإلى هذا الحد يكره العالَمُ الإسلامَ، ويكرمون من يسيء إليه؟!
لِمَ ذلك؟ وما الذي صنعه الإسلامُ لهؤلاء حتى يكرهوه؟ ثُمَّ ما الذي عمله الإسلام لي حتى أعاديه هكذا؟ ثم بدأ يلوم نفسَه دون أن يشعُر، فكيف يقبل أن يسيء لدين سماوي، حتى ولو لم يؤمن به، ثم يتقبل بكل بساطة التكريم والنَّجاح نتيجة هذه الإساءة؟ ثُم تذكَّر كلامَ سالم له لَمَّا قال له: أتريد معرفةَ الإسلام؛ لتنجحَ عن طريق الإساءة له وعلى حسابه، وظَلَّت هذه الأفكار تُراوِدُه حتى وصل بيته، فوجد امرأةً مُحجبة تجلس على بابه هي وولدان لها: ولد وبنت، فلما سألها عن سبب جلوسها على باب بيته، ذكرت حاجتها؛ لتنفقَ على ولديها اليتيمَيْنِ، فرفض طلبها؛ بسبب إسلامها مُدعِيًا أنْ لا حاجةَ له بخادمة، ولكنَّها أصرَّت عليه وبكت وحكت عن عظم حاجتها، وجوع ولديها، فرَقَّ لها قلبُه، فأدخلها وبدأت العمل عنده كخادمة.
كانت أم إسماعيل "اسم هذه المرأة" تتجاوز الخمسين من عُمرها، ويظهر من ولديها أنَّها إما متأخرة في زواجها أو تأخرت في الإنجاب، فإسماعيل عمره اثنتا عشرة سنة، وسلوى عمرها تسع سنين، وهي امرأة مِصْرِيَّة جاءت إلى أمريكا مع والديها وأخيها منذ أكثرَ من ثلاثين سنة، وتزوجت من أمريكي مسلم، ولكن هذه العائلة لم توفَّق، وظلت في مستوى معيشي متدنٍّ، وبعد مُرور السنين لم يبقَ من هذه العائلة إلاَّ أم إسماعيل؛ لأنَّ أخاها مات قبل أن يتزوج، وكان زوجها هو آخر من مات من عائلتها بعد أنْ أثقلته الدُّيون، فسيطرت الشرطة على بيت زوجها الذي كان يُؤويها هي وولديها؛ لوفاء ديون زوجها، فأصبحت في الشارع بلا مأوى.
وهكذا أصبحت أمُّ إسماعيل تخدم بنيامين، وسكنت مع ولديها في غرفةٍ خارجية كانت مخصصة للخدم، ومع مرور الأيام تعَلَّق قلبُ بنيامين بالوَلَدين، وصارت هذه العائلة مؤنسة له في وحدته وغربته؛ لأنَّه بعيدٌ عن أهله، وسعد بنظافة بيته، وبالأكلات المصرية اللذيذة، التي كانت تطبخها له أمُّ إسماعيل، وصار أكثرَ حُبًّا لبيته، وشعر بحنان آخر غير حنان أمه، فأم إسماعيل كانت تعمل أشياء لم تكن تعملها أمُّه، فكانت تصنع له كُلَّ ما يسعده وهو يدرس، وتؤمِّن له أجواءَ هادئة للدراسة، وتبعد أولادَها؛ حتى لا يزعجوه، ومن وقت لوقت تدخل عليه وتسأله عن حاجته، وتعمل له جميعَ أنواع المشروبات، التي تساعده على التركيز، وتعمل له أنواعًا كثيرة من الحلويات، وتسأله عما يُحِب من الأطعمة، فتعملها له بكل حُبٍّ وعطف، وتقدمها له كأم لا كخادمة.
فكان ذلك يُدخل السكينةَ على قلب بنيامين، ويشعره بالسرور، حتى إنَّ دراسته تَحسَّنت، وارتفع مستواه خلال الأشهر التي جلست أمُّ إسماعيل معه، فكان يذكر أُمَّه، ويقارن بينها وبين أم إسماعيل، ويحزن للمقارنة، فرغم مَحبة أمه التي كانت تظهر عليها وخوفها عليه، وعملها كل ما تستطيع لإسعاده، ولكنْ هناك أمورٌ على الرغم من بَساطَتِها كانت تعملها أمُّ إسماعيل، كانت تبدو مُختلفة ومميزة، وتُسعد بنيامين، ويطمئن قلبُه بسببها، خاصَّةً لما كانت تدعو له يومِيًّا وهو خارج إلى جامعته، فكانت كلماتُ دعائها تبقى مُصاحبة له طوالَ يومه، ويشعر بتأثيرها الإيجابي عليه، وكان مَسرورًا باستمرار عملها هذا، رغم معرفتها أنَّه يهودي.
مع أن ذلك أزعجَ أمَّ إسماعيل بدايةً، ولكنَّها تَجاهلت ذلك؛ لأنَّها باتت تعرفه جيدًا، إضافةً إلى خلقه الكريم معها ومع أولادها، فكانت تسعد عندما تراه مع أبنائها على سُفرة واحدة، ولا يهتم بكونهم أطفالاً أو غرباء، بل على العكس لما كانت تطلُب أن يأكل وحْدَه يَرفِض، ويقول: إنَّ سعادته تكتمل بتناوله الطعام مع إسماعيل وسلوى، وكان أحيانًا يطعمهم بيده من باب المداعبة لهم، وكان كثيرًا ما يلعب معهما في حديقة المنزل في ساعاتِ فراغه، ويتحدث معهما كما حدث في مرة وهو يلاعبهما، فأراد التحدث معهما قليلاً، وأراد أن يعرف أحلامهما، وكيف يفكر الطفلُ في مثل هذه السن، فلما سأل إسماعيل رد: إنَّه يريد أن يكون طيارًا.
• طيارًا! شيء جميل، ولكن لِمَ تُحب أن تكون طيارًا؟
• لأقود طيارتي، وأذهب لأقتلَ الإسرائيليِّين، وأطردهم من بلدنا، فصُعِقَ بنيامين من كلامه، ثم قال: لِمَ تريد قتلهم، فإنْ قتلتهم سيقتلونك؟ فلِمَ لا تختار عملاً مسالِمًا، فرد عليه بطريقة أشعرت بنيامين بأنَّه يُكلِّم رجلاً؛ حيث قال: أقتلهم؛ لأنَّهم احتلوا أرضنا فلسطين، وقتلوا الأطفالَ وشردوهم، وكل يوم يأسرون الآباءَ، فيبعدونهم عن أولادهم، أو يقتلونهم، فيصبح أولادهم مثلي أيتامًا لا يرون آباءَهم أبدًا، ثُمَّ ولو قتلوني فلا أخاف من ذلك؛ لأني سأصبح عندها شهيدًا بإذن الله، أفلا تعلم عظمةَ الشهادة وجزاءَها؟
• وما جزاؤها؟
• الشهادة هي أعلى المراتب، والشهيد له الدَّرجات العُليا في الجنة، وعند أول قطرة تنزف منه، يغفر له كُل ذنوبه، ويأتي يومَ القيامة وريح دمه ريح مسك.
• كل هذا لكم إن قتلتم اليهود، ثُم ألاَ تعلم يا إسماعيل أنِّي يهودي، فإن قتلتني، فهل سيكون لك كُلُّ هذا الجزاء؟ لم يرتبكِ الطفلُ، ورَدَّ رَدَّ الرجال قائلاً: لَم أقل لك: إنْ قتلنا اليهود وقتلونا لنا الشهادة، بل قتلنا يكون للظَّلَمَة والمحتلين، ومن قال لك: إنِّي سأقاتلك، فأُمِّي أعلمتني أنَّك يَهودي، ولستَ إسرائيليًّا، وعَداوتنا ليست مع اليهود، بل مع الإسرائيليِّين الذين يَحتلون أرضَنا، ويقتلون شعبنا.
تأثَّر بنيامين بكلام إسماعيل جِدًّا، وقال في نفسه: أنا إسرائيلي يا إسماعيل، فهل سيأتي اليومُ الذي تقتلني فيه؟ ثُمَّ زاد فضوله؛ ليعلم حلمَ سلوى، وسأل نفسه: أهي أيضًا تريد أنْ تقتلَ اليهود؟ فلَمَّا سألها رَدَّت ببراءة: أحلم بأن أكون أُمًّا، فتبَسَّمَ بنيامين، وقال في نفسه: جميلٌ أنَّها لا تريد أنْ تَقتلني هي الأخرى، ثُمَّ سألها: نعم، أكيد، ولكن ألاَ ترغبين في التعلُّم.
• نعم، سأتعلم، ولكن أحِبُّ أن أكون أُمًّا مثل أمي، وأنجب صلاحَ الدين؛ لأنَّ أمي تقول لإسماعيل دائمًا: كن كصلاح الدين، فأنا أريد أيضًا أن أنجب صلاحَ الدين، فبُهِتَ بنيامين مُحدثًا نفسه: صلاح الدين؟! مُحرر القدس! يا إلهي، لِمَ لا أهرب، وأحرر نفسي من هؤلاء الأطفال، ثُمَّ سألها: ومَن صلاحُ الدين؟ فردت وكأنَّها تسخر من جهله، وهي لا تُدرِك اختلافَه عنها؛ ليهوديته، وكيف لا أعرفه؟ ألاَ تعرفه أنت؟ كلمتني عنه أمي، وقالت: إنَّه حرر القدس، وأنا سأنجب ولدًا أسميه صلاح الدين؛ ليُحرِّر القدس من اليهود الظالمين.
سكت بنيامين، وفَكَّر في كلامهما، ثُمَّ قال: لن تَبْقَيْ يا إسرائيل وفي المسلمين كهؤلاء.
ومنذ مجيء أم إسماعيل لبيت بنيامين عاد ليسمع الكلامَ الذي اشتاقت نفسه إليه دون اعترافه لنفسه بذلك، فهو لا يَجرؤ على مثل هذا الاعتراف، فقد سَمِعَ صوتَ القرآن من قبل أن يدخلَ إلى بيته بعد عودته من الجامعة، فانشرح صدرُه، وسُرَّ عندما دخل، ووَجَد أُمَّ إسماعيل تسمعه وهي تعمل، فعَلِمَ أنَّ هذا الصوت سيظل مرافقًا له في بيته، ولكنَّه عاد ليكذبَ على نفسه، ويقول: إنَّ سرورَه من نظافَةِ البيت، الذي لم يكن هكذا قطُّ، فهو لا يستطيع تنظيفه كما تنظفه أم إسماعيل، فأحيانًا كان يأتي بخادمة تُنظفه من وقت لآخر، ولكن الآن صار بيته نظيفًا دائمًا.
ولما رأته أم إسماعيل أغلقت آلةَ التسجيل، فلَمَّا سألها عن ذلك، قالت: أنا أسمعه وأنت بالخارج، فلا أحِبُّ إجبارَك على سماع ما لا ترغب، فقال لها: أنْ لا تُكرِّر ذلك مُدعِيًا أنَّه لا ينتبه لصوته، فلتأخذ حريتَها في السماع، ولتسمع ما تشاء، وهنا تذكَّر أمَّ سليم، التي سَمِعَ عندها القرآن أولَ مرة، ثم سألها: هل يجبر الإسلامُ المرأةَ على سماع القرآن وهي تعمل؟ فابتسمت من سؤاله وقالت: وكيف ذلك؟ لا طبعًا، فسَماعُ القرآن وتلاوته شيء تعبدي، ولكنَّه ليس مُقيدًا بوقت ولا هيئة، فتسمعه متى شئت، وكيفما شئت، وأنا أضعه؛ حتى لا أضيع وقتي، وأستثمره في كسب الحسنات، ولأحافظ على حفظي له؛ حتى لا أنساه.
فتفَهَّم بنيامين الأمرَ، ثُمَّ ذكر لها سببَ ظنه، وحكى لها عن أم سليم، وكيف تصنع صنيعها نفسَه؛ ولذلك شك في الأمر، ولكنَّه لم يُخبرها بأنَّها في فلسطين؛ حتى لا تعرف أنَّه إسرائيلي، ومن هذا اليوم صار بنيامين يسمع القرآن يَومِيًّا في بيته، حتى إنَّ جلوسَه في البيت أصبحَ أكثرَ بسبب كلِّ هذه الأمور، التي أضيفت له بمجيء هذه العائلة الصَّغيرة؛ لتعيش في بيته.
كانت ثقة بنيامين بأم إسماعيل كبيرةً، ولكنَّ هذه الثِّقة ازدادت لَمَّا دخل عليها يومًا وهي في مكتبه، والدم ينزف من كَفِّها، وولداها بجانبها خائفان، فلما سألها عما حدث، ذكرت له ما جرى معها عندما دخلت إلى البيت بعد عَودتِها من السوق، ففوجئت بلِصٍّ في مكتب بنيامين، وقد أنهى كسرَ خزنة المكتب، ولم يبقَ إلاَّ أن يأخذَ المال الذي فيها، فهجمت عليه بكرسي، وصارت تنادي صاحبَ البيت، وكأنَّه موجود؛ ليهيأ للسارق أنَّه بات في خطرٍ؛ لوجود صاحب البيت، فما كان منه إلاَّ أن دَفَع أمَّ إسماعيل، ولاذ بالفرار، فحاولت أمُّ إسماعيل الاستنادَ على طاولة المكتب، فكُسِرَ الزجاجُ الذي عليها، فدخلت قطعةٌ منه في كفها، وسَبَّب لها جرحًا عميقًا.
فهرع بنيامين إلى صيدلية البيت، وأتى بشاش ومُعقِّم فعَقَّم الجرح، ولَفَّه بالشاش، ثُمَّ قالت له أمُّ إسماعيل: تَفَقَّدِ المالَ، فقام بتفقُّده، فوجده كاملاً لم يأخذِ السارقُ منه شيئًا، فسألها: أتدركين قَدْرَ هذا المال وما يشتري لك؟ فردت: نعم، وكيف لا أدرك؟ ولكن لِمَ تسأل؟
• لو أنَّك أخذت هذا المال، ألاَ يكفيك أنت وولديك؟
• أعوذ بالله، هل تريدني أن آخذَ مالاً حرامًا، وأُربِّي به أبنائي؟
• ولكنَّ ولديك في حاجة، ولو أخذتِ المالَ، لن أستطيعَ أنْ أصِلَ إليك؟
• إنْ لَم تصل إلَيَّ ولن تصل الشرطةُ إلَيَّ، فعقاب ربي يصل أينما كنت، ويا بُنَيَّ، لو أني ربيت ولديَّ بمال حرام، فكيف يكونان ناصرين لدين الله خادمين له؟
• وهل تحتملين جوعهما في سبيل نصرة دينك؟
• لا أقبل الجوع فقط، بل أقبل كلَّ العذاب لي ولهما - على أنْ أعيشَ أنا وهما في مال حرام أو معصية لله.
• ولكني يهودي، أليس مالي حِلاًّ لكم؟
• ومن قال لك هذا، أو من خدعَك وكذب عليك، وقال لك هذا الكلام؟ بل السرقة حرام، سواء كانت من مسلم أم من غيره، فالله لا يقبل بالظلم.
فكانت هذه حادثة جديدة تضاف إلى سجل الحوادث، التي تبني شخصية بنيامين الجديدة.
ولكنَّ هذه الحالَ لم تدُم على بنيامين طويلاً؛ لأنَّ أم إسماعيل كشفت أمرَه وعرفت أنَّه إسرائيلي، فجُنَّ جنونُها، وغضبت كثيرًا؛ لغفلتها، ولكن ما زاد هذا الغضب والتوتر معرفتها أيضًا بكتاباتِه في الصَّحيفتين، وأنَّ شغلَه الشاغل هو مُعاداة دينها، وكيل الاتهامات له، فقرَّرت الرحيل من بيت هذا المعادي للإسلام، والإسرائيلي المحتل لبلد مسلم.
كانت صدمة بنيامين كبيرةً جِدًّا عندما عَلِمَ بنِيَّتِها، فهذا ما لم يكن يتمنَّاه قطُّ، فهذه العائلة صارت كأنَّها عائلته، ولا يتصور أن يأتي إلى البيت يومًا ولا يجدهم، فهم مَن جعلوا فيه الحيوية والدِّفء، فحاول بكل الطرق لثنيها عن قرارها، ولإقناعها بالعدول عن رأيها، ولكن بلا فائدة، وترجَّاها، وكرَّر الطلب كثيرًا، ولكنها بَقِيَتْ مُصِرَّة على موقفها.
لما جهزت أمُّ إسماعيل نفسها وولديها حملت حقيبتها لتخرج، فلما أيقن بنيامين أنَّها ذاهبة لا محالة، تكلم معها كآخر محاولة له قائلاً: لِمَ تذهبين؟ ما ذنبي أنا إن ولدت يهوديًّا، وحكى لها قصته، وكيف ترك ما يظن أنَّه وطنه؛ لأنَّه لم يقبل بصنيعهم، ثُمَّ قال: ألَم تعيشي معي، وتعلمي من أنا؟ فردت عليه وهي مستاءة: ومقالاتك التي تكتبُها الآن، أفُطِرْتَ عليها أيضًا، وعلى سب ديني ودين آبائي، أم هذه من أخلاقك التي اخترتها؟
• أنا لا أسب الدينَ، بل أتكلم عن رأيي في تعاليم الإسلام، فأرجوك ابقي، فأنت تعلمين كم أحبُّ الولدين.
• لا يمكن أن أبقى؛ لأخدمَ إسرائيليًّا يَحتل أرضًا مقدسة بالنسبة لي، وهل أُبقي ولديَّ؛ ليأكلا من مالك، لا يُمكن أنْ أبقِيَهما في بيت مَن عادى دينَهما.
• لِمَ أنتم هكذا جميعكم تُحاسبونني على يهوديتي؟ أنتم مَن جعلتموني أكره دينَكم؛ لأنَّكم بمجرد معرفتكم بيهوديتي تكرهونني وتُبعدونني عنكم، صدقيني يا أمَّ إسماعيل، أنا أحبُّك وأحب وَلَدَيكِ، وأحببت سالِمًا، وأحببت... وسكت، ثُم تابع قائلاً: فلِمَ تعاملونني بهذه الطريقة؟
• ربَّما أنت كنت لطيفًا معي ومع ولديَّ، ولكنَّ ديني أغلى مني ومن أبنائي، فإن أحسنت إِلَيَّ، فلن أخضعَ لك وأنت تسيء لديني؛ لأنَّك بذلك تسيء إلَيَّ.
• حسنًا، اعملي ما شئت، ولكن لأقدم لك شيئًا، واقبليه مني.
• وما هو؟
• لي جار أمريكي مسيحي أثِقُ به، فأرجوكِ حتى لا يضيع الولدان، اذهبي إليه وأنا واثق بأنه سيكرمك، فهو لديه عائلة، ويريد مربية لأولاده، فإن وافقتِ، أكلمه الآن، فوافقت وذهبت إلى ذلك البيت المجاور، فسَعِدَ بنيامين؛ لأنَّ الطفلين سيبقيان بجانبه، ولكنه جلس حزينًا بعد خروجهم من بيته، فقد أصبح البيتُ موحشًا حزينًا بعد ما كان مؤنسًا، تضحكُ جميعُ زواياه، فلم يعد صوتُ أم إسماعيل، ولا صوتُ ولديها يُسْمَع في هذا البيت.
ثُمَّ عاد وتذكَّر ما قاله لأمِّ إسماعيل عندما قال لها: إنَّه يُحبهم جميعًا، فسأل نفسه: أكنتَ تُريد أن تقول: إنَّك تُحب مريمَ؟ وكيف تحبها وهي مُسلمة؟ ثم ضعف وقال: نعم، فعلاً أشتاق إليها، فمُنذ زمنٍ لَم أرها، ثُمَّ قال: كفاك كذبًا، لو أنَّك تُحبها لم تؤذِها، وتسب دينها، فأنت آذيتَ كلَّ مَن أحبَبْتهم، وكل من قدم لك السعادة بكلامِك وإساءتك لدينهم، ولكنه قام؛ ليشغلَ نفسه بقراءة كتاب؛ لينتهي من أفكارِه التي لم تعجبه؛ لأنَّه كره أنْ يضعف، وقرَّر أن يستمر في حربه.
صار بنيامين يلتقي مع إسماعيل وسلوى بحديقة جاره، وهو عائد من عمله، ولكن أم إسماعيل كانت تضيِّق عليه، وتطلب من ولديها أن لا يكلماه؛ لأنَّه إسرائيلي، ولكنه ترجَّاها؛ لتتوقَّفَ عن ذلك، فهو لا يطمع في أكثرَ من أن يكلمهما دقائقَ، ويَجلب لهم بعضَ حلوى الأطفال والمأكولات، التي يُحبَّانها؛ ليرى فرحتهما، فصارت أم إسماعيل تتغاضى عن لقائه معهما؛ لأنها تَثِقُ في حبه لهما، فهي أصبحت تعرفه من خلال الأشهر القليلة التي خدمته فيها، فسُرَّ بنيامين كثيرًا؛ لتَكرار لقائه بالأطفال، وكان عندما يرى ضحكهما عندما يأتي لهما بالهدايا، يشعر بالسَّعادة، فيذكر كلامَ سالم عندما كان يتحدث له عن الأعمال الإنسانية، وكيف أنَّها تدخل السرورَ على قلب مَن يعملها، كما تدخله على قلب من يستفيد منها، فكان يقول لنفسه: إنَّه فعلاً بدأ يُدرك هذه المشاعر، فكم كان يشعر بالسَّعادة، كلما رأى سعادةَ هذين الطفلين الفقيرين!
وفي إحدى المَرَّات كان يَجلس مع إسماعيل، فرأته أمُّه وطلبت منه أن لا يتأخر، فقال بنيامين: أترى كيف تصنع أمك بي؟ فهي لا تريدني أن أراك، مع أني أحبك أنت وسلوى، فرد عليه إسماعيل بجواب لم يتوقعه حين قال: عندي فكرة لِمَ لا تُسْلم فتصبح مثلنا، فلا يَعُودَ لأمي سببٌ لمعاداتك؟ فرد بنيامين وهو متفاجئ من كلام هذا الطفل: أسلم؟! وكيف ذلك، فهل تريدني أن أترك ديني؟
• نعم، ولِمَ لا؟ فأنا قرأت كثيرًا عن الصحابة، فكلهم كانوا غيرَ مسلمين، ثم أسلموا.
• ولكن كيف أسلم وأترك دين آبائي؟
• الله أعطانا العقل، والإسلام دائمًا يُعلمنا أن لا نقلد آباءَنا، ونتفكر، ونبحث عن الحقِّ، ثُمَّ نؤمن بعد ذلك دون تأثير من آبائنا.
نظر بنيامين لهذا الطفل، وكيف لأول مرة يُطلب منه هذا الطلب؟ وممن؟ من طفل، ثُمَّ سأله: وهل أنت تترك دينَ آبائك؟
• مستحيل، وكيف أترك الإسلام؟
• إذًا فكيف تطلب مني أنْ أتركَ دينَ آبائي؟
• أنا لا أقول ذلك؛ لأنه دين آبائي، بل لأنه الإسلام، وأنا فكرت بعقلي، فوجدت أنَّه الدين الحق.
• (أوه) وكيف فكرت بعقلك؟ ثُمَّ بدأ يُحاول إثارَتَه؛ ليرى ما عنده، فقال: أنت رأيت والديك مسلمين فقلدتهما.
• لا، ليس صحيحًا، فلَمَّا سمعت من شيخي عن ضرورة التفكُّر، وعدم تقليد الآباء، فَكَّرت بعقلي، فوجدت أنَّ الإسلام هو ديني.
• وكيف ذلك؟
• عندما تفكر فيما حولك: السماء، والأرض، والشمس، وشروقها، وغروبها، وقدرة الله، تعلم أنَّ عليك أنْ تُؤمن به وحْدَه؛ لأنَّه هو القادر على كل شيء.
• أنت طفل ذكي، ولكن كيف تعلمتَ ذلك؟
• أنا أدرس عند شيخ في المسجد يُعلمني، وأنا أفكر أيضًا، فأقرر ما أعمل.
• ألا يشغلك ذلك عن دروسك؟
• لا طبعًا، فدُروسي ليست بأهمَّ من تعلم ديني؛ لأنَّ درسَ المسجد يُعلمني ما يوصلني إلى الجنَّة، هكذا علمتني أمي.
أثار كلامُ إسماعيل إعجابَ بنيامين، واحترم شجاعته على كلامه، ولكنه فهم كلامَه على أنه لم يكن ليقال إلاَّ لطفولته، فمثلاً سالم لَم يَجرؤ في يوم بدعوته إلى الإسلام، فكان يعتقد أنَّ سبب ذلك هو خوف المسلمين، فهُم لا يجرؤون أنْ يصارحوا أحدًا في هذا الموضوع، ويدعوه للإسلام، ولم يفهم ذلك بأنه احترامٌ منهم؛ لاختيار الشخص لدينه، لا لضعف المسلمين وخوفهم من قوة اليهود.
كانت موضوعات بنيامين في مقالاته تتكلم عن كُلِّ شيء في الإسلام: التعدُّد، والجهاد، والعبادات، والأخلاق، ولكنه لم يتناولِ الحجابَ قطُّ، وكلما أراد الإساءةَ له، تَذَكَّر المرأةَ في منامه، وأم سليم، ومريم، فلم يستطع الكتابةَ، وفي يوم قرَّر أن ينتصر على نفسه، وأن لا يضعف ويكسر هذا الرمز في نفسه؛ لأنَّه بدأ يدرك أن هذا الرمزَ مُؤثر فيه، وأبعد عواطِفَه كلها، وبدأ صياغة الكلمات المسيئة، واللائمة للحجاب، وأنَّه اضطهاد للمرأة، وحجز لحريتها، وليس حضارِيًّا ويدل على تخلُّف مَن يلبسه، ومن يسمح به، وغير ذلك من الكلمات الجارحة لكل محجبة، ونشرتها الصحيفة الكبرى التي يعمل فيها.
قرأت مريم هذه المقالةَ إضافةً لقراءتها كلَّ ما سبقها من مَقالات، فحزنت جِدًّا لما كتبه، كما كان يُحزِنُها كلُّ مقال يُسيء فيه بنيامين للإسلام، فقررت أن تفتح قلبها لأبيها، وتكلمه عن بنيامين وما يعمله من إساءات.
وفعلاً لَمَّا التقت مع أبيها مساءً، كلمته عما حدث لها، وكيف أنَّ بنيامين أصبح عَدوًّا للإسلام بعد كلامِها الأخير معه، فكانت المفاجأة بأنَّ أباها لامها جدًّا، وقال لها: لم يكن هناك داعٍ لكلِّ هذا الكلام الجارح، وكان يكفي أن تشرحَ موقفها، وأنه محتل، ولا تقدر أن تتعامل معه، لا أكثر، فلما سمعت مريم كلامَ والدها، قالت له باستحياء: ولكنَّه لم يكن ليتركني لو أنِّي قلت له ما تقول.
• ولِم؟ فهو لن يكلمك رغمًا عنك.
• ولكن - يا أبي - بنيامين يريد شيئًا غير ذلك.
• لم أفهم قصدك.
• يعني أقصد أنَّه يُكلمني كشاب لفتاة.
• الحقير، وهل كان يُزعجك أو يؤذيك، فقاطعته مريم وقالت: لا يا أبي، لم يُبدِ أيَّ إساءة، ولكني شعرت أنَّه كان يَوَدُّ أن يكلمني باستمرار، ويلتقي معي في الجامعة، فلَمَّا أحسست بهذا، قرَّرت أن أقطعَ عليه الطريقَ نِهائِيًّا، فقال أبو خالد: وبعدها هل آذاك؟
• لا، قطُّ، فلم أرَه على العكس، أظنُّ أني أصبحت عدوة له.
• إذًا هو لَم ينتقم من الإسلام؛ لأنَّه علمك هذه الأخلاق كما زعم.
• ما الذي تقصده؟
• هو نقم على الإسلام؛ لأنَّه فرَّق بينك وبينه.
• وهل يعقل هذا، ولكن هل هو مجنون ليفكر في مسلمة؟
• أنا سأذهب إلى بيته غدًا بإذن الله؛ لأحاولَ أن أكلمَه؛ لعَلَّه يبتعد عن إساءته للإسلام، خاصَّة بعدما كلمتِني عن قصته مع سالم.
• تذهب إليه! وما سبب ذلك؟ وماذا ستستفيد من ذَهابك، فلن يرد عليك؟
• لأوصل له رسالة أنَّنا لسنا نعاديه لشخصِه، بل لأنه محتل.
• وكيف تذهب إليه وأنت لا تعرف عنوانَ بيته؟
• ألا تذكرين لما ذهبتُ إليكِ في الجامعة مرة، ورأيته فتكلمت معه، ثم أوصلناه إلى بيته؟
• نعم، أذكر، ولكن لست مُقتنعة بكل هذا العمل، ولا أدري لِمَ أنت مهتم به إلى هذه الدرجة؟
• لا أدري، شيء غريب يشدني إليه، ولكن أتعجب كيف لقيته عِدَّة مرات ولم أعرف أنَّه يهودي، ولم أعرف حتى اسمه؟
• نعم، هو قَصَدَ أنْ لا يقول ذلك؛ حتى لا نعلمَ أنَّه يهودي، ولكن ما الذي يَجعلك مشدودًا له، ألِأَنَّه يشبهك؟
• وهل انتبهتِ لذلك؟
• نعم، هو يشبهك فعلاً.
• ولكنَّه يُشبه عَمَّك - رحمه الله - شبهًا كبيرًا، وربَّما لهذا شدّني.
• ولهذا السبب ظننت أنه عربي.
• رُبَّما، ولكني مُنزعِج من هذا الشُّعور، فمهما يكن يبقَ يهوديًّا.
• نعم، فعلاً، وعلينا أن ننتهي من التفكير فيه.
• الآن أريد رُؤيته وبعدها أقرر إن شاء الله.
وفي هذه الليلة نفسها التي تَجَرَّأ فيها على الحجاب، الذي يُؤثر فيه كثيرًا، رأى في نومه تلك المرأةَ التي كانت دائمًا تأتي مبتسمة له، ولكن هذه المرأة رآها وهي حزينة، وتنظر إليه وهي تُمسِك بحجابِها وكأنَّها خائفة عليه، فقام بنيامين فزعًا من هذا المنام، ثُمَّ قال لنفسه: لِمَ أزعجت هذه المرأةَ التي دائمًا ما أراها وآنس برؤيتها؟ ثم نهض من سريره؛ لأنَّه لم يستطعِ النومَ من جديد، وأعاد قراءةَ مقالته، فضاق صدره أكثرَ لَمَّا أحس بكَمِّ الكره الذي يحتويه هذا المقال.
وقبل أن يَخرج بنيامين إلى جامعته جاء أبو خالد إلى بيته، فسرَّ به، واستقبله أحسن الاستقبال، وبعد حديث طويل فتح أبو خالد موضوعَ العداوة للإسلام، الذي يتبناها بنيامين، فرَدَّ عليه بأنَّه حرٌّ بآرائه، وهو يتصرف على هذا الأساس، فلامه أبو خالد على هذه الحرية، التي تُؤذي الآخرين، وأنَّها ليست بحرية، بل تعديًا.
ثُم تحدث عن الإسلام ورحمته وعظمته، ولكنه شَعَرَ بأن ذلك لن يفيدَ، فأراد أن يدخل بالشيء الذي دفع بنيامين لهذا الصنيع، فقال له: إنَّ مريم حزينة جِدًّا لما فعله، وهي لم تكن تتوقع منه هذا الكلام، بل على العكس كانت تنتظر أن يكون داعيةَ سلام بعد معرفتها به لعدة أسابيع، ولكنَّ بنيامين رغم تأثُّره، كابَرَ وقال: لم تكن تتوقع مني!
إذًا لِمَ وصفَتْنِي بِكُلِّ تلك الصِّفات الخبيثة؟ هنا قَرَّر أبو خالد أنْ يكونَ صَريحًا جِدًّا، وأن يُوصل المعنى لبنيامين بشكلٍ جيد، ولكن دون أنْ يُصرِّح بالحقيقة كلها، فقال: لأقل لك - يا بنيامين - أنا ومريم قدرنا لك كُلَّ ما صنعته مع مريم، ونحترمك، ونشكرك على ذلك، ولكن مريم لما علمت أنَّك يهودي لَم تكن لتستوعبَ الصدمة، خاصَّة أنَّها تعلم اليهود وظلمهم لنا، وتكره أفعالهم، فأرادت أن تقول لك: إنَّ تَعامُلَها معك لم يَعُد مُمكنا؛ لأنك منهم، فلم تستطع؛ لأنَّك أحسنت لها.
فكونها فتاة فذلك يعني ضعفها، فلما كرهت ضعفَها، قررت أن تلبسَ ثوبًا ليس بثوبِها، فظهرت بهذه القَسْوة؛ لتنهي علاقَتَها بك نهائِيًّا، ولكن في الحقيقة هي ممتنة لك على كل ما عملته معها، فلما سمع بنيامين هذا الكلام، وفهمه جيدًا رغم تحفُّظ أبي خالد في كلامه، صُعِقَ به، إضافةً لتفاجُئِه لصراحة أبي خالد، فلم يبقَ كما فهم بنيامين إلاَّ أن يقول أبو خالد: إنَّ مريم تريده، فلما علمت استحالةَ حلمها، قاومته بكل هذه الشراسة.
فأثلج هذا الكلامُ صدرَ بنيامين وأراحه، رغمَ ما سببه له من ألَم، فمَريم بالنسبة له ما زالت مستحيلة، ولكنَّه على الأقل علم أنَّ مريم لا تَحتقره كما كان يظن، ولَمَّا لم يتكلم بنيامين، واكتفى بأفكاره، قام أبو خالد واستأذن، وقال وهو خارج: أرجو أن تعلم أنَّنا لم نُحاربك لشخصِك، ولكن إنْ حاربناك فلأنك إسرائيلي مُحتل لأرض مُقدسة عندنا، فرد بنيامين بألم: أفهم ذلك، فكلكم تتكلمون بالكلام نفسه، وأنا أقدر مشاعِرَكم، وحُبَّكم لمقدساتكم.
فشكره أبو خالد لتفهمه، ثم قال له بكل ثقة: أرجو أن تعيدَ النظرَ فيما تكتب، فأنت تُؤذي نفسَك لا أكثر، فالدين دين الله، ولن يُؤذى بكلامِ عبدٍ من عباده، فالله قادرٌ على أن يفعل به ما شاء، فمتى شاء أن ينتقمَ منك أو يوقفك، فعل، فكن على يقين أنَّ ذلك بيده، فلا تُعرِّض نفسَك لغضب الخالق، الذي أعلم أنَّك تؤمن به كخالق وكقدير، فدعك من الخوض في هذا الأمر، ولا تجهد نفسَك في عداوةِ مَن لا تستطيع النَّصْرَ عليه، ثُمَّ ثِقْ بأنَّ هدفك في أذية المسلمين من خلال شتائمك واتهاماتك لن يتحقق؛ لأنَّ المسلمين يؤمنون بأنَّ هذه الأذية سُنَّة من سُنَنِ الله، وهم على العكس، فبدلاً من أن يَخافوا منها، ينتظرون منها الفتح، فبكلامكم عن ديننا ومُعاداته تدفعون الكثير؛ ليعرفَ هذا الدين أكثر، ثم ما يلبثون أنْ يُسلموا، فهذا هو اختيارُ الله لنا ونحن نرضى به، نؤذَى ثم يأتي الفتح.
خرج أبو خالد وكله تفاؤل أن تكونَ كلماتُه أثَّرت في هذا الشاب، الذي لم يكن يتمنى أن يستمر على هذا الطريق، رَغْمَ عدم معرفته بسِرِّ ذلك الشعور الذي يشعر به؛ ولذلك بدأ يسألُ نفسه: لِمَ يهتم بهذا الشاب، وحمل نفسه وجاء لبيته وكلمه؟ هل فعلاً ليوقفه عن الإساءة للدين؟ وهذا شيء يتمنَّاه بداهَةً، ولكن هناك الكثير ممن يُسيئون للإسلام، ويعلم يقينًا أنَّه لا يقدر أن يُوقفهم، فلماذا حاول مع هذا الشاب؟ وهل سيؤثر فيه فعلاً؟ ولِمَ يشعر بأنه خائف على هذا الشاب؟ ولكن كل هذه الأسئلة لم يَجدْ لها جوابًا؛ لذلك حاول أن يهرب منها.
أما بنيامين، فجلس بعد خروج أبي خالد يُفكر فيما دار بينهما، وشعر بأن مريم تتعذب كما يتعذب، ثُمَّ فكر في حزن تلك المرأة في منامه، وفي القلادة وكيف أنَّه لم يعمل أيَّ شيء في سبيل معرفة لُغزها، فقَرَّر أن يذهبَ إلى مَن يعتقد أنَّها المعين له، والتي يَثِقُ بها ثقةً عمياء رغم ما حدث بينه وبينها، وهي مريم، فيطلب منها أنْ تُخبره ما النقش الذي في القلادة؟ ولكنَّه تردَّد وخاف، وكيف سيكشف سِرًّا مخبأ منذ أكثرَ من عشرين سنة، وهو لا يعرفه، ولا يعرف إن كان من مصلحته أنْ يَعْرفه أم لا.
فعاد إلى ذاكرته كلماتُ أبي خالد الأخيرة عن اختيار الله، فتذكر كلامَ سالم عندما قال له: إنَّه سيطلب الاختيارَ من الله، فجلس خاشعًا بين يدي ربه قائلاً: يا رب، أكلمك أنت وحْدَك من بيدك كل أمر، ومن خلقت، ومن تقدر على كل شيء أنْ تَختار لي الخير كما تعلمت من سالم، فأنت ربه وربي اختر لي، هل أُطْلِع مريمَ على النقش، أو هل فيه سِرٌّ لا ينبغي أن يعرِفَه أحد، يا رب، ما الخير لي؟ دلني يا رب.
فكانت هذه الكلمات كأنَّها إعلان منه بلحظةِ ضَعْفٍ وإقرار بوحدانية الله واحتياجه له، فهو قد كلم ربًّا واحدًا على غير عادته؛ لِمَا يشرك به غيره، بل أراد أن يطلبَ مِمَّن يُؤمن بقدرته وقُوَّتِه وعلمه، لا مِمَّن يشركهم معه، وبعد أن أنْهَى دعاءه رَبَّه، خرج وهو يقصد مريمَ التي يَثِقُ بها، خاصَّة أنه تأكَّد اليومَ من أنَّها لم تكن تقصد بكلامها شخصه، بل قصدت استحالةَ علاقتهما؛ بسبب يهوديته، ولما أساءت لَم تُسِئْ إلاَّ لأعمال مَن ينتمي لهم من الإسرائيليِّين، فوَضَعَ القلادةَ في جيبه؛ حتى لا تظهر أنَّها له، ولَمَّا وصل الجامعة، ذهب إلى المكان الذي يُمكن أن توجد فيه، وكان متلهِّفًا لرُؤيتها، فهو لم يَرَها منذ شهور، فلما رآها سار باتجاهها، ففُوجئت لرُؤيته، وقالت بينها وبين نفسها: يا إلهي! هل عاد لمحاولاته؟ أيعقل أنَّ ذَهابَ أبي له شجعه على العودة؟ سامَحك الله يا أبي، كنت مرتاحة.
ولكن ما يمكن أن يكون الحديث الذي دار بينهما؛ حتى يعود ويكلمني بعد كلامي الجارح له في آخر لقاء، وهنا وصل بنيامين ولَمَّا صار أمامها، وَقَف ولم يتكلم، فهي مِنْ ثَمَّ لم تتكلم، ولَمَّا طال الأمر على هذه الحال، شَعَرت أنَّ وقوفهما لم يَعُدْ مَقبولاً، فقالت: نعم، ما الذي تريده؟ فسكت قليلاً، ثُمَّ قال بجديةٍ تشبه جديتها: كما قلت لك آخر مرة، أريد المساعدة، ولن أستحي من حاجتي؛ ولذلك جئت اليوم.
• ولكن ما الذي يمكن أن أقدمه لك؟!
فأخرج القلادةَ من جيبه، ثم قال: هذه القلادة وجدتها، وعندما فتحتها وجدت فيها نقشًا عَربِيًّا، ولم أَثِقْ بأيِّ أحد لأسأله عن هذا النَّقش، وفي النهاية اخترتك أنت.
• ولكن أليست هي القلادة نفسها التي كنت تلبسها من قبل؟
هنا علم أنَّها رأته وهو يلبسها، ولكنه أراد الإصرارَ على أنَّها ليس له فقال: نعم، وجدتها منذ زمن، ولكن كما قلت لك: أبحث عن مَن أثق به؛ ليترجم لي.
• ولماذا يَجِب أن يكونَ ممن تَثِقُ بهم؟ فأيُّ شخص عربي يُمكن أن يترجم لك.
• لا، فأنا لا أعلم ما يمكن أن يكون، ولذلك عليَّ أن أثِقَ بمن يترجمها، حتى إن كان فيها ما يُخيف ولا يضرني، وتعلمين أنَّهم سيتهمونني بأنَّ هذه القلادة لي، فتبسمت مريم، ثُمَّ قالت: يا إلهي! إلى هذا الحد تَخاف من العربِ حتى من نقشٍ على قلادة؟! فما يُمكن أن يكونَ هذا النقش أكثر من كلمات عربية أحبَّ صاحِبُها أن ينقشَها لا أكثر، فانزعج بنيامين من قولها، وقال بغضب: كفاك إساءَة يا مريم، فأنا لم أُسِئْ لك قطُّ، وكل القصة أنِّي لا أقدر أن أتخيل ما يمكن أن يكون هذا النقش؟
• على كلٍّ أصبح عندي فضول؛ لأعرفَ الكلام المنقوش، فأعطني إيَّاها؛ لأرى ما فيها.
فتح بنيامين القلادةَ ثُمَّ أعطاها إيَّاها، فلما نظرت على النقش تغيَّر وجهُها، وفوجئت مفاجأة كبرى، الأمر الذي أقلق بنيامين لَمَّا رأى تغيُّر وجهها، فسألها بلهفة: ماذا وجدت؟ وما زال الحديث طبعًا حديثَ أعداء، وبكلِّ برود ردت عليه بسؤال قائلةً: أين وجدت هذه القلادة؟
• وجدتها في بلدي.
• تقصد هنا في أمريكا؟
أراد بنيامين هنا أن يوصلَ لها رسالةً أنه ما زال يفتخر بما يظُنُّ أنَّه وطنه، وكأنه فقط يريد إثارَتَها وإزعاجها؛ ليبدوَ أنه لم يأتِ إليها إلا لمصلحة، فقال: أقصد بلدي ووطني "إسرائيل".
• بل تقصد فلسطين، وهذا لا جدال فيه، ولكني لن أطيلَ معك، فليس لدي وقت لأتكلم مع أمثالك، والآن هل حاولت إيجاد صاحِبَها؟ فلم يعلق على إساءَتِها الجديدة، بل رَدَّ على سؤالها وقال: ليس لها صاحب؛ لأني حاولت، ولكن دون فائدة، ولكن لَمْ تَقولي لي ما النقش؟
• النقشُ لا يفيدك، ولكن سأكلمك بما يُفيدك وهو المال، فأنا أريد شِراءَها منك، فقل لي: كم تريد؟
• إلى هذه الدرجة أعجبك النقشُ؟
• ليس قصة إعجاب، ولكنَّه لا يهمك، فأنا أدفع لك ضِعْفَ ثَمنها، أو ثلاثة أضعاف، وإن شئت أربعة أضعاف.
• (أوه) ألهذا الحد يستحقُّ النقش؟! أشعرتِني بأنَّ النقش يَحْوي كَنْزًا، فضحكت مريم بسخرية، وقالت: وهل نحن في فيلم للأطفال؟
• إذًا لِمَ تريدين شراءَها إن لم تكن مهمة؟
• أريد أن أُهديها لأخي الأصغر لما ينجح، فضَحِكَ كثيرًا قاصِدًا إغاظتها، ثُمَّ قال: تُهديها لأخيك، وما هذا التخلُّف؟ كنت أظنُّ أنك ستُهدينها لصديقك أو حبيبك، فردت عليه بغضب جعله يشعر وكأنه نطق بأسوأ الألفاظ؛ حيث قالت له: اخرس أيها المعتوه، أنت قليل الأدب، وغير محترم، ولِمَ الكلامُ معك، فأنت فعلاً يهودي؟
• أحذرك للمرة الألف، لا تسخري مِنِّي ولا من ديني، ولا من بلدي، كفاك يا مريم، احذري كي لا أزعجك.
تزعجني! يا لَلعجب! أتريدني أن أسكتَ وأنت تتجرَّأ وتهينني وتتهمُني بما يسيء إلَيَّ كمُسلمة، ويُسيء لأخلاقي كفتاة، ثُمَّ هل إلى هذا الحد غريب بقاموس علاقاتكم أنْ تُهدي الأختُ أخاها، والهدية عندكم فقط بين الصديق وصديقته؟
سكت بنيامين وتذكَّر ماري لَمَّا سألها: هل هي عذراء؟ فاستشاطت غضبًا، كحال مريم، وتساءل: لو أنه سأل مريم اليوم هذا السؤال، ما الذي كان يمكن أن تفعله؟! فجاوب نفسه: إنَّها ربَّما جعلته بين الأموات، فضَحِكَ ضحكة خفية، ثُمَّ عاد لموضوعه الأساسي، وقال لها: وفي النهاية، أنتِ لا ترغبين بإخباري ما هذا النقش؟ إذًا هاتِها.
• خُذها ما دمت خائفًا عليها هكذا، أنا فقط أحبَبْتُها، وأردت شراءَها، فإن وافقتَ فأنا مستعدة في أي وقت.
• لأقل لك كلامًا نِهائِيًّا حتى لا تناقشيني بعدها، هذه القلادة قلادتي، ولن أبيعها بمالِ الأرض.
• هل تظن أنَّ فيها كَنْزًا فعلاً، وافرض ذلك، فمهما كان الكنز لن يُساوي مالَ الأرض أبدًا، ولكنَّ نقشَها بالنسبة لي، فمال الأرض لا يساوي شيئًا أمامَه.
• أنا لم أقل عن الكنز إلاَّ بعد رُؤيتي لاهتمامك الشديد بها، والآن أصبحت أكثرَ شوقًا؛ لأَعْرِفَ ما هذا النقش؟ فما يمكن أن يكون إن كان مالُ الأرض لا يساوي شيئًا عنده.
• ولكن بالنسبة لكَ لا يُساوي النقشُ شيئًا، فصدقني لن يفيدك.
• يعني وبالمختصر أنَّك لا تريدين إخباري عنه، ولذلك أشكُرُكِ، وأستأذن، فلما أدار ظهرَه يريد الذَّهابَ مُنزعِجًا من تصرُّفها غير المبرر بالنسبة له، قالت بكل برود: "يا محمد، أنت مسلم"، فاستدار، ونظر إليها، وقال: ما الذي قلتِه؟ لم أفهم... من محمد؟!
• النقشُ هكذا "يا محمد، أنت مسلم"، فلَمَّا سَمِعَ ما قالت، صار يرجف وشل لسانه، ولم يَعُدْ يقدر على الكلام، ونشف الريقُ في فمه، ثُمَّ عاد ليسألَها والكلمات ترجفُ وهي خارجة من فمه: ماذا؟ ما النقش؟
• ما بك؟ قلت لك: إنَّه لن يُفيدَك، فهذه قلادةٌ عربية نقش صاحبُها عليها هذا النقش: "يا محمد، أنت مسلم"، وهنا لم يَعُد بنيامين ينطقُ بكلمة لوقتٍ طويل، ثم إنَّه لم يعد يرى أحدًا من حوله حتى مريم؛ ولذلك ما لَبِثَ أنْ تَرَكها دون أن يستأذِنَها، أو يسلم عليها، وأصبح يَمشي كالتائه، لا يعرفُ لِمَ يَمشي؟ ولا إلى أين يَمشي؟ فاستغربت مريم تصرُّفَه، ولكنها فسَّرَتْه على أنه انزعج؛ لمعرفته أنَّ هذه القلادة تدل على أنَّها لمسلم، والنقش حمل اسمَ النبي r ولكنَّها عادت، وسألت نفسها: لِمَ لم يَبِعْها إن كان النقشُ لم يعجبه؟
عاد بنيامين إلى بيته وحبس نفسَه فيه، بل بغُرفَتِه خاصَّةً، لمدة يومين وليلتين في حالة ذهول، لا يقدر أنْ يعملَ فيها أيَّ شيء، حتى أنْ يُفكر، فقد شُل ذِهنه، وعجز عن التفكير، ولا يَسْمعُ في هذه الفترة، إلاَّ كلمةَ "يا محمد، أنت مسلم"، كانت هذه الكلمة تتردَّد، وتتردد دون أن يقدر على إيقافها وهو مُستلقٍ على سريره، لا يقدر على الحَرَاكِ؛ بسبب عَجْزِه عن تفسير ما حدث له، وبعد نِهَاية اليومين أفاق من دهشته، وقام وأكل لُقَيْمَات؛ لأنَّه شعر بعد إفاقته بانهيار جسمه من الجوع، ثُمَّ عمل كأسًا من الشاي، وجلس يعيد شريطَ حياته كلها، وبدأ يفكر في كلِّ الأحداث المهمة، التي مَرَّت به؛ ليستطيعَ تفسير ما حدث معه، وصار يتساءل: لِمَ أحبَّ هذه القلادة؟ ولِمَ رافقته طوال حياته؟ فهي لم تفارقه إحدى وعشرين سنة.
ثم لِمَ كان أهله يكرهونها، خاصَّة أمه، رَغْمَ أنَّها هي من اشترتها، كما كانت تقول؟ ثم تذكَّّر كلامَ رفاقه دائمًا معه عندما كانوا يعجبون من تصرُّفاته، عندما كانوا يتحدثون عن اختلافه عن اليهود، ثم القرآن وتأثره به عندما سمعه في بيت أم سليم، وتذكَّر المرأة المحجبة في منامه، وكيف يسعد كلما رآها، وسالم ومريم وكل ما حدث معه من كره لأعمال اليهود، وتأثيره على كثير من المسلمين، وهو في خِضَمِّ هذا التفكير قفز إلى ذهنه دخولُه لأول مرة المسجد الأقصى، وشعوره آنذاك بسكينة وراحة، وحبه لحائط المبكي كما يسميه، وحبه لزيارته دائمًا، وتساءل: هل أحبه؛ لأنَّه المبكي أو لأنه البراق؟
ثم فكر في مقالاته الأخيرة وعدائه للإسلام وانزعاج المرأة في منامه، ثم سأل نفسَه: مَن يكون؟ وما حقيقته؟ ولِمَ يحمل يهوديٌّ قلادةَ مسلم، وترافقه لسنين عديدة؟ وبَقِيَ هكذا لساعاتٍ كثيرة، ولما عجز عن الإجابة عن تساؤلاتِه، استسلم لتعبه، ونام بعد أنْ فارَقَه النوم لأكثرَ من يومين، فعادت إليه تلك المرأة، واقتربت منه، وربتَتْ على كتفه، وابتسمت له، فقام من نومه بعدها، وما أنْ تذكر المنام، حتى انفجرَ بالبُكاء وكأنه يُفرِّج عن نفسه العاجزة أنْ تعملَ أيَّ شيء، ويخرج ما فيها من مشاعر مكبوتة منذ أيام، واستمر على ذلك لوقت طويل.
في هذا الصباح المحزن لبنيامين اتَّصلت إلين به، وأخبرته أنَّها وزوجها سيخرجان الآن إلى المطار؛ ليذهبا إليه، فكان هذا الخبر مُفاجأة لبنيامين، لَم يكن يتوقَّعها إلاَّ أنه سُرَّ بها، فهو الآن في ضيق، ويَحتاج لمن يكون معه، ومن أقرب من أمه وأبيه ليقفان معه في هذه المحنة، إضافة لأنَّه يَحتاج أن يسألهما عن سِرِّ هذه القلادة.
وصل الوالدان واستقبلهما بنيامين بسعادةٍ كبرى، وكانت زيارتُهما في هذا الوقت بمثابة استعادة الحياة لبنيامين، بعد أن كاد يَموت من ثِقَلِ ما وقع عليه، خاصَّة أنه عاجز عن تفسيره.
في المساء وبعد أنِ ارتاحَ الأبوان وارتاحت نفسية بنيامين أيضًا برُؤيته والديه اللذين اشتاق لهما كثيرًا، جلست العائلة في الحديقة، وبعد حديثٍ تضمَّن مواضيعَ مُختلفة سأل بنيامين أمَّه: من أينَ اشترت له القلادة؟ فاستغربت إلين السؤال، وفُوجئت به، إضِافة إلى انزعاجها من قصة القلادة، التي تُلاحقها كُلَّ هذه السنين، ولا تجد لها حلاًّ تتخلص به منها، فهي باتت على قناعة أنَّ هذه القلادة هي صِلَةُ الوصل بين بنيامين وأصله، ثُمَّ ردت عليه قائلةً: ولِمَ تسأل هذا السؤال الآن؟
لأعرف - فقط - هل هذا سِر حتى لا أسأل عنه؟
• لا، ليس سِرًّا، ولكني لا أذكر، وكيف أذكر شيئًا حدث منذ أكثر من عشرين سنة.
• هذا حدث يفترض أنَّه مهم، فهذه هدية لابنك، ولهذا يجب أنْ لا يُنسى، فثار غضبُها؛ بسَبَبِ زيادة اهتمامه بها، وقالت وهي تصرخ في وجهه: كفاك غباءً، واتركْ تلك القلادة المشؤومة، صرت أكرهها، وأكرهُ الحديث عنها، بل صرت أكره بقاءَها معك... ما بك؟ وما الذي عملتْه هذه القلادة البغيضة لعقلك، حتى صرت توليها كلَّ هذا الاهتمام؟!
وهنا صرخ أفخاي أيضًا: قلت لك من ساعة إيجادنا لهذه القلادة المشؤومة: ارميها، وتَخلَّصي منها، فهي تدل على العرب والمسلمين، وشُؤمها سيظهر علينا، ولكنَّك لم تُصغي لكلامي، فتفاجأ بنيامين من كلام أبيه؛ حيث إنَّه كان يعتقد أنَّها هدية من أمه، والآن يكتشف أنَّهما وجداها، فصرخ في وجه أمه لائمًا لها: وجدتِها: هل هذا صحيح؟ أكنت تكذبين على ابنك، وتقولين: إنَّها هدية؟ والآن أكتشف أنَّها ليست إلاَّ قلادة مرمية في الشارع وجدتِها وتركتِني أتعلق بها، فردت إلين وهي تشعر بالحرج: وما الفرق؟ أنا لما وجدتها وددت أنْ أخُصَّك بها، وهكذا أكون كأنِّي اشتريتُها لك خاصَّة، والمهم الآن أنك عرفت أنَّها مجرد قلادة، فارمِها وتَخلَّص منها.
• هكذا بكل بساطة تتكلمين وكأنَّك لم تعملي شيئًا، وكيف أصدقك الآن، فرُبَّما كما كذبتِ عليَّ طوال السنين الماضية تكذبين عليَّ الآن، وما أدري ما يُمكن أن تكونَ قصة هذه القلادة؟ فما أن سَمِعت الأمُّ هذا الكلام حتى ارتعبت، فكلام ابنها تغيَّر، وأصبح يشك أنَّ لهذه القلادة سِرًّا، فاليوم يشك وغدًا لا تدري ما سيعمل، أو يقول لها عن هذه القلادة، فجُنَّ جنونها من هذا التفكير، وخافت خوفًا شديدًا، فصاحت به ليعطيها هذه القلادة، وأعادت الطلب مرَّات عديدة.
ولكن بنيامين لم يقبل أنْ يعطيها قلادتَه، وصرخ بها أنَّها قلادته، ولا يُمكن أن يتخلى عنها، فما كان منها إلاَّ أن هجمت عليه، وأرادت سحبَ القلادة من رقبته، وكادت أن تقطعها لولا أنَّ بنيامين قاومها وأبعدها، إضافةً لتهدئة أفخاي لها وإبعادها عن بنيامين، فصارت تشتم القلادةَ، وتسبها بأقسى الألفاظ، وتتوعد بأنْ تتخلَّص منها بأي طريقة.
خاف بنيامين على قلادته، فخَبَّأَها؛ لأنَّه أخذ تَهديد أمِّه على مَحمل الجد، ولكنه بات على يقين بعد هذه الحادثة أنَّ لهذه القلادةِ قصةً، ولا بد أن يعرفها يومًا ما.
أمَّا أمه، فلم تستطعْ إكمالَ إجازتِها في أمريكا بعد شجارها مع ولدها، وأصرَّت على العَودة إلى تل أبيب، فسافرت مع زوجها بعد يومين فقط، وتركا بنيامين وحدَه في صراعه مع كل ما يَحدث له، ولكنَّه ارتاح لسَفَرِهما؛ ليكونَ أكثرَ حُرية في بَحثه.
تذكر بنيامين كلامَ أغلب من حوله عن شكله، وأنَّه أبعد ما يكون عن الشكل الأمريكي، فزادت شكوكه أكثر، ولكنه ترك هذه الأفكار، واستسلم بدايةً لقول أمه: إنَّها وجدتها، فقال لنفسه: إنَّها مُجرد قلادة لعربي، ووجدتْها أمُّه، ثم تعلق بها؛ لاعتقاده أنَّها هدية من أمه، ولم يقُل ذلك إلاَّ ليقاومَ تلك الأفكار، التي أتعبته، فما يعني أنْ يتذكرَ أنه يشبه العرب، إلاَّ أن يكونَ هو فعلاً عربي، وأن أمه وأباه ليسا بأم ولا أب له، حتى هو نفسه بذلك يكون ليس هو، وهذا كله لم يقدر على استيعابه، فأراد أن يهربَ من كل ذلك باتِّكاله على كلامِ أمه، وبَقِيَ يقاوم هذه الأفكارَ عِدَّة أيام، ولكنه في النهاية لم يَعُد يَحتمل شكوكه التي بقيت تراوده، وعزم من جديد أن يبحثَ عن الحقيقة بكل ما أوتي من قوة.
بدأ يُفكِّر فيما يُمكن أن يكون السبيل لذلك، ويستعرض عِدَّة حلول لكيفية مَعرفة سِرِّ القلادة، وبعد تفكير طويل تذكَّر أوراقَ والده القديمة، حتى ولو بَدَا بهذه الفكرة، كالغريق الذي يتعلَّق بقشة، ولكنه برَّر لنفسه أنَّه رُبَّما يَجِد بين هذه الأوراق مصدرَ هذه القلادة، أو محل بيعها، أو أي شيء عنها، وما أن خطرت بباله هذه الفكرة واقتنع بها، حتى بادر إلى الصُّعود إلى سقيفة المنزل المرمي فيها كلُّ ما هو قديم، وجلس بين الأوراق يبحث وكأنَّه يبحث عن كنز؛ لعَلَّه يجد ما يدله على شيء يُفيده، ولَمْ يبقَ شيء إلاَّ تفحصه، ولا ورقة إلاَّ عرف ما فيها.
وهو على هذه الحال وقع بين يديه تقريرٌ طبي، فأراد أن يرمِيَه؛ لعدم حاجته له، لولا أنَّه رأى كلمة عُقم في هذه الورقة، فلفتت نظرَه، فبدأ يقرؤها، فإذا هذه الورقة عبارة عن تقرير طبي يُثبت عُقمَ والدتِه، وعدم قدرتِها على الإنجاب، وهو بسنة 1947؛ أي: قبل وقتٍ قصير من ولادته، فأسقط في يده ولم يعُد يعرف ماذا يفعل؟ أيعقل أنَّ أمَّه لا تُنجب، فكيف هي أمه؟ وإن لم تكن أمه، فمن أمه؟ ومن أبوه؟
فبما أنَّ إلين ليست أمه، فبالتأكيد أفخاي ليس بأبيه، حتى وإن كان ينجب، فدائمًا كانت إلين أكثرَ حنانًا من أفخاي، فمِنْ ثَمَّ من المؤكد أن أفخاي ليس بأبيه أيضًا، فاحتفظ بالتقرير والألم يعتصر قلبه، والدنيا ضاقت في وجهه، فكيف خُدِعَ كلَّ تلك السنين؟ وكيف عاش مع أبوين ليسا بأبويه؟ وهل من المعقول أنه مسلم، واسمه محمد؟ وهل كان يُعادي دينَه الحقيقي، أو كل هذا وهم يعيشه، والتقرير كان مُخطِئًا، وحملت أمه بعدها وأنجبته؟!
كانت كل هذه الأحداث تنزل كالصَّواعق على قلب بنيامين، وصار الألم رفيقًا له، والكآبة تُغطِّي وجهَه، وكان لا يَدري أين يذهب؟ وكيف يواجه مصيرَه المؤلم والمجهول؟ ومَن يُمكن أن يُخفِّف عنه بهذه الساعة، فخرج من البيت الذي لم يعُد يسعه؛ عله يجد في الهواء الطلق متنفسًا له، فما أن خرج حتى سَمِعَ صوتا يناديه، فالتفتَ فإذا بإسماعيل.
فقال لنفسه: وما يصنع لي هذا الغلام؟! فأراد أن لا يهتم لندائه، ولكنه غيَّر رأيه، وعاد إليه آملاً أن يَجد السكينة معه، فلَمَّا اقترب منه، فإذا بالغلام يركض نحوه بلهفة، وكأنَّه لم يره منذ شهور، فسلم عليه، وبدأ يُحدثه عن اشتياقه له، وكيف يتركه لأيام لا يراه فيها دون أن يَمر عليه، فشعر بنيامين بالسَّعادة لما رأى شوقَ إسماعيل له، وشعر بأنَّه ليس وحيدًا، بل هناك من يُحِبُّه، ولا يَجد نفسَه غريبًا معه، حاله كحال أي إنسان ضعيف مُحتاج يَقْوَى بأيِّ كلمة يسمعها، أو موقف بسيط يحدث له.
فاعتذر بنيامين لإسماعيل؛ لغيابه، وجلس يكلمه متناسِيًا هَمَّه، وكانت لهذه الجلسة أثرُها الإيجابي؛ لترتاحَ نفسيته، ولو قليلاً، ثُمَّ مَرَّ أحدُ جيران بنيامين، فبدأ يكلمه ويسلم عليه، وانشغل معه دقائقَ عن إسماعيل، ولما عاد وجد إسماعيلَ يُردِّد كلماتٍ عربية، فسأله: ماذا يقول، فرد إسماعيل: أردِّد الآيات التي حفظتها اليومَ؛ لأثبّت حفظها.
• هل تقصد أنه قرآن؟ ولكن القرآن الذي سمعته أحيانًا ليس هكذا، فهل هناك عدة نسخ للقرآن؟
• لا، لا طبعًا كيف هذا؟ فالقرآن محفوظ ليس فيه حرف فيه شك أو ريب، ولكني أقرؤه قراءة عادية وبسرعة؛ لتسميعه - فقط - ولم أكن أجَوِّده، ولو شئت لقرأت لك بالتجويد، فسترى أنه كما سمعته.
• نعم، اقرأ؛ لأرى، وهل فعلاً كما كنت أسمعه؟ فكانت هذه فرصة لبنيامين؛ ليسمعَ القرآن، خاصَّة في مثل هذه الحالة الكئيبة التي يَمر بها؛ لعَلَّها تُغادره، ويشعر بالراحة، فلما بدأ يقرأ إسماعيلُ آياتٍ من سورة مريم، السور