منتدى الأسرة العربية لصيد الفوائد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الأسرة العربية لصيد الفوائد

منتدى الأسرة العربية لصيد الفوائد نساعدك في الرجوع لطريق المستقيم بعون لله
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
دليل مواقع

 

 القلادة .!!(2)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
الإدارة العليا
الإدارة العليا
Admin


الدولة : المغرب
المزاج : القلادة .!!(2) 0512_md_13389403801
عدد المساهمات عدد المساهمات : 2924
نقاط التميز نقاط التميز : 12030
السٌّمعَة السٌّمعَة : 665
تاريخ التسجيل تاريخ التسجيل : 12/06/2012
العمر العمر : 28
ذكر

القلادة .!!(2) Empty
مُساهمةموضوع: القلادة .!!(2)   القلادة .!!(2) I_icon_minitimeالأربعاء يوليو 25, 2012 9:16 am

وبسبب هذا القرب تَجرَّأ بنيامين، وسأل ماري من غير أيِّ مقدمات، وقال: ماري، هل أنت عذراء؟ فاحْمَرَّ وجه ماري استحياءً، ولكنه حياء صاحبه كَمٌّ هائل من الغضب، فكأنَّما اختفت ماري الفتاة الهادئة، التي اكتسبت من عروبتها حياءً وهُدوءًا ولينًا، وجاء مكانَها امرأة شرسة قوية، فهذا السؤال كان ثقيلاً عليها، ولم تكن ترغَب في أنْ يتجرأ أحدٌ ويسألها عنه مُطلقًا؛ ولهذا صرخت في وجهه، والغيظُ يَملؤها: فعلاً إنَّك يهودي، كيف تَجرُؤ على هذا السؤال الخبيث؟!
فأراد بنيامين أن يُهدِّئها عندما رأى ما حدث لها، وأدرك خطأه، فهو لا يتعامل مع يهودية، ولكنها لم تترك له المجالَ مُطلقًا، وتابعت كلامَها قائلة: تعامُلك مع اليهوديات أعمى بصرَك، وأنساك مع من تتكلم، أنا عربية، وليكن في علمك، فالعربية لا تقبل ما تقبلونه أيُّها اليهود.
فقال بنيامين وهو مرتبك: اهدئي، سامحيني، أنا سألتك فقط؛ لكوني أعلم أن المسلمات لا يسمحن بذلك، ولكنني ظننت أنَّك كالأمريكيات المسيحيات، فقاطعته: كفى، اسكت ولا تتكلم، وأنا قلت لك: العربيةُ وليست المسلمة فقط، فنحن لنا العادات نفسها، ولا نقبل بما تقبلونه أنتم، وتركته وانصرفت غاضبة، وحاول أن يُنادي عليها وهو يتأسَّف ولكن لا فائدة.
انزَعَج بنيامين؛ لأنَّه أزعج ماري، ولكنَّه في الوقت نفسه شعر بسرور كبير؛ لأنه استطاع أن يلتقي وفتاةً ليست كاليهوديات، ولم تسلم نفسَها لأحد؛ ولذا جاء في اليوم التالي إليها، واعتذر لها، وشرح لها موقفه، وأنه من كثرة ما رأى من النساء اليهوديات، أصبحَ يظُنُّ كلَّ النساء على هذه الحال، وطلب منها أن تسامحه، وذكر لها أنه هو أيضًا ليس كالشباب اليهود، ولم يكن له أي علاقة، ولكنها لم تصدقه في بداية الأمر، ولكنها مع معرفتها به أكثر علمت صدقه.
وكانت علاقتهما خاصَّة بينهما، لا يتدخل فيها أحد، ولا تُزعِج أحدًا من أصحاب الطرفين، فلِكُلٍّ حريته، ولكنه كان هناك شخص واحد منزعجًا من هذه العلاقة التي أصبحت مكشوفة على صعيد الجامعة، وهذا الشخص هو سيلينا التي نصبت نفسها مخطوبة لبنيامين، وكادت تَموت من الغيظ والغَيْرة، ولم تكن تدخر جهدًا في سبيل القضاء على هذه العلاقة، وبعد تفكير كبير قرَّرت سيلينا أن تخبر أهل بنيامين وماري بعلاقتهما؛ لتأكدها من كره العرب لليهود المحتلين، وكره اليهود للعرب، وإن كانوا مسيحيين، وهذا سيكون كافيًا حتى لا يتم هذا الزواج، خاصة من قبل أهل ماري، فالعرب بحكم تَماسُك أسرِهم قادرون على منع ابنتهم من هذا الزواج.
وفعلاً ذهبت وأخبرت الأسرتين، وجُنَّ جنون الأسرتين حينما سَمِعَا، وقررَا فورًا العمل لمنع الزواج، وطبعًا هذا لم يكن ليؤثر على بنيامين؛ لأنَّه لو كانت ماري وأسرتها موافقين لم يهمه رأيُ أهله، وسيتزوجها رَغْمَ ما أبدى أهله من انزعاج ومُعارضة، وأخبروه أنَّ هذا الزواجَ لا يُمكن أن يتم، ولو أصر بأي حال من الأحوال، فلا يُمكن لهم أن يقبلوا بأن يتزوج ابنهم من عربية، ولكن كل ذلك الكلام لم يكن يهتم به، بل انتظر ما سيكون رد ماري؛ لأنَّ القرارَ أصبح بيدها، فإن وافقت فليس عنده مشكلة، رغم كلام أهله؛ ولذلك وصل أفخاي وإلين إلى اليأس حينَ رأوا عدمَ اكتراث بنيامين بكلامهم.
ولَمْ يَبْقَ لديهم أملٌ إلاَّ أن تكون المعارضة من أهل ماري؛ ولهذا استسلموا ليروا رأيَ أهلها، وكان لهم ما أرادوا، فمن الطبيعي رفض أهل ماري العرب، الذين لا يمكن لهم أن يقبلوا أنْ تتزوج ابنتهم بيهودي أصلاً، فما بالهم بأنه محتل إسرائيلي، ولم يكونوا كأهل بنيامين مُتساهلين، بل جُنَّ جنونهم، وفوجئوا بما أخبرتهم به سيلينا، وهَدَّدوا ماري بالقتل إن تزوجت بهذا اليهودي المحتل، ولكنَّهم في الوقت نفسه أرادوا أن يكونَ للنِّقاش دَوْره في إقناعها؛ حتى لا تتمرد عليهم، وتعمل ما تشاء، بل أرادوا أن تقدم هي على رفض الأمر، وتعلم أن هذا الزواج سيجلب العار عليها، وعلى أهلها.
فقال لها أبوها قاصدًا إقناعها بالعقل: يا ابنتي، ما تفكرين فيه ضربٌ من الجنون، وهو المستحيل بعينه، فهل تريدين أن تتزوجي بمن احتلَّ أرضَك، وأرض آبائك وأجدادك؟ وهل تريدين أن ترتبطي بمن حوَّلك لوضعٍ مادي متوسط بعد أن كان أهلُك يَمتلكون المزارعَ والأراضي؟ أو هل ستنجبين أبناءً يقتلون أبناءَ إخوتك وأبناء أخواتك؟ فردت ماري وهي مقتنعة بكلام أبيها مائة بالمائة: ولكن يا أبي أنا أحببته، وهو ليس كاليهود، وهو طيب، ويقتنع بالنقاش، وهو أيضًا يحبني.
فرَدَّ أبوها وهو يقدِّر مشاعِرَ ابنته: لو اقتنعنا بكلامِك، وكان صحيحًا، وهو ليس كباقي اليهود، ولكنه ألَم يقبل باحتلال فلسطين؟ ألَم ينتقل من بلده الأصلي، وجاء ليعيش على أرضِنا، ولتعلمي شيئًا، وهو أنَّ الأرض التي يعيش عليها، ويبني منزله فيها هي أرضُ جدك، وإن لَم تصدقي أُرِيكِ أوراقَ ملكية الأرض، وليكن عقلك أكبر، اعذريني يا ابنتي؛ لأَنِّي سآخذ موقفًا صارمًا لا رَجعة فيه، لأساعدك فقط على النسيان، وهو أنني قرَّرت أن أذهبَ للقدس الشرقية؛ لنكونَ تابعين للأردن، بدلاً من أن نتبع لهؤلاء المجرمين، مع أنني لم أكن أنوي تركَ أرضي قطُّ، ولكن لأجلك سأفعل هذا، رغم صعوبته فسكتت ماري، واستسلمت لقرار أبيها؛ لأنَّها تعلم أن زواجَها من بنيامين كان مستحيلاً، وسيظل مستحيلاً.
في اليوم التالي ذهبت للجامعة، والتقت هي وبنيامين اللقاء الأخير، وأخبرته بما جرى بينها وبين أبيها، وأنَّ زواجهما مستحيل، وليس هناك أي مَجال للنِّقاش في ذلك، فقال لها بنيامين متألِّمًا: ولكني أحبَبْتك، وأتمنى الزواجَ بك.
• وأنا أيضًا أحببتك، وتَمنيت أنْ أتزوجَك، ولكنَّ هذا مستحيل الآن، فأنا كنت أعول على تأخير الأمر، فأخفيته عن أهلي؛ لعلنا نجد مخرجًا، ولكن دخول تلك الخبيثة صاحبتك اليهودية بيننا هو ما أفسد ما خططت له، وقتلت حبنا، قاتلها الله.
• نعم، علمت بذلك، ولكن دعك الآن منها، ولنحاول ونحارب الناسَ كلها في سبيل حبنا.
• أنا لم أعُد أريد أيضًا، فلن أُوذي أهلي، واقتنعتُ بكلام أبي، وهنا استأذنت وأرادت الذَّهاب فناداها: ماري.
• نعم.
• هل سأراك.
• لا أعتقد، خاصَّة أنِّي أفكر في السَّفر إلى لندن؛ لأكملَ دراستي، وأعيش مع أخي الذي يعيش في بريطانيا، ومشت.
• ماري.
• ماذا بعد؟
• أتمنى لك التوفيق.
• وأنا أيضًا أتمنى أنْ أراك صحفيًّا كبيرًا، ولكن أقولُ لك كلمةً أخيرة: فَكِّر في كلِّ ما تناقشنا فيه، واعلم أنَّ الحقَّ معنا، وأنتم مَن أتيتم، واحتلَلْتم الأرضَ، وظلمتم الإنسان، ولتذكر دائمًا وكما قلت لك: إنَّك تسكن في بيتِ جَدِّي تعيش وتأكُل وتنام على أرضي، التي كان من الطبيعي أنْ أرثَها، وأنعم بها، ولكن جئتم وصرتم أنتم من تتنعمون بها.
وعلى كلٍّ، فإن كنت حبيبًا لي، فستبقى يهوديًّا، وأجبرتني أنا وأهلي لنترك القدس الغربية، صحيحٌ أننا سنذهب للشرقية، ولن نبتعدَ كثيرًا، ولكن على كل حال فسنترك أرضنا، التي عشنا فيها طوالَ عمرنا، وذلك بسببك؛ يعني: بسبب اليهود، فكلكم سواء؛ لذا أقول لك قبل أن أتركَك ولأول مرة: بنيامين، أنا أكرهك، وتركته ومضت.
نظر بنيامين إلى ماري، وهي تبتعد عنه، وظَلَّ يرمقها إلى أنْ غابت عن نظره، وكلمة "أنا أكرهك" ظل يسمعها في نفسِه لساعات طوال، حتى إنَّها ظلت تأتيه بين الفترة والفترة لأيام كثيرة بعدها.

ذهب بنيامين إلى لقاء سيلينا التي كادت تطير فرحًا بفراق بنيامين وماري، وأول ما التقت معه باركت له بُعدَه عن ماري تلك العربية الحمقاء والغبية، و... و... و... وكثير من الصفات التي استمرت تُردِّدها، وأخبرته كم هي سعيدة ببعده عن تلك العربية المقيتة! فرد عليها ووجهه يقطر غيظًا: وأنا أيضًا سعيد، ولسعادتي أود أن أقول لك كلمات.
• تفضلْ، قل يا أحبَّ الناس.
• أولاً: أنا تركت ماري، ولن أتزوجها أبدًا، فسرت سيلينا بكلامه، وقالت: وهذا ما يفرحني، ويَجعلني بغاية السعادة.
• ثانيًا: لم يكن زواجنا من البداية مُمكنًا، وكنت أشك بأنه سيأتي اليوم الذي نفترق فيه، وفعلاً افترقنا.
• وهذا الوضع الطبيعي "تتكلم ووجهها يَملؤه السرور".
• ثالثًا، ولأول مرة أقولها لك: إنَّني وقبل معرفتي بماري أنوي الزَّواج منك، وكان من الطبيعي عندما أفترق عن ماري لسبب أو لآخر أعود إليك.
• والآن قد عُدت وانتهت المشاكل، وكلامك الآن يسعدني؛ لأنَّك كنت تفكر في، فكم كنت أتمنى ذلك! ولكنك كنت تبخل بإخباري بمشاعرك.
• رابعًا، وهو الأهم، وكونك كنت السبب في فراقنا، ومع أنَّ فراقَنا كان له عشرات الأسباب ليتحقق، وفي النِّهاية ففراقُنا لم يكن إلاَّ بسببك، فإنِّي أقول لك وبملء فمي وبكلام لا رَجعةَ فيه: سيلينا، لا يمكن أن أتزوجَ منك، ولا تحلمي مجردَ حُلم بذلك، وما دمت تسعدين بفراقي عن ماري فاسعدي، ولكن بعيدًا عن وجهي، فأنا أكرهك غايةَ الكره.
• بنيامين، ماذا تقول؟ فأنا أحبك، ولم أفعل ما فعلت إلاَّ لأجلك، فهل هذا جزائي؟
• قلت لك ما عندي، وليس عندي المزيد.
• ولكن أبي صحفي كبير، ويمكن أن يساعدَك؛ لتنجحَ في عملك، أرجوك بنيامين لا تكن مجنونًا، وتضيع مستقبلنا مع بعض.
• لا أريدك، ولا أريد أباك، ولا أرغب في النَّجاح إن كان عن طريقِك، وتركها وهي تحاول شَدَّه واسترضاءه، ولكنه لم يلتفت إليها.
ولأن بنيامين كان يخبر أخته "غير الشرعية" سارة بكُلِّ ما يحدث معه، وعلاقته مع ماري وحبه لها؛ لذلك ذهب إليها؛ ليخبرها عن آخر التطوُّرات، وقصة فراقه المؤلمة له جِدًّا، فسمعته بأُذُن الأخت، وكانت تشعر به، فهي كانت تتمنى أن يتزوجها؛ إذْ رأت حبَّه لها وتعلقه بها، أو ربَّما كما كانت تفهم تعلقه بتميزها عن اليهوديات؛ لأنه وجد بماري صفاتٍ كان يُحبها لم يكن يَجدها في الفتيات اليهوديات.
وبدأت تُهدئه وتخفف عنه؛ عَلَّه يجد فتاة مثل ماري يقدر أن يتزوَّجها، فظلت هكذا حتى اطمأنت نفسه، وارتاح كعادته حينما كان يأتي إليها ويُكلمها، وبعد انتهاء الحديث اعتذرت له؛ لأنَّها مُضطرة للاستئذان؛ لتذهبَ في مظاهرة مع العرب، فحاول أن يقنعها؛ كي لا تذهب، ولكن دون فائدة ككلِّ مُحاولاته السابقة، فكثيرًا ما كان يدعوها لترك هذا العمل، ولكن دون فائدة، خاصَّة أنه بدأ يعلم أنَّ اليهود بدؤوا يلاحقونها.
وكانت كثيرًا ما تأخذها الشرطة؛ لتحقِّق معها، وتدعوها للابتعاد عن هذه الأعمال، فلما اسْتَيْئَسَ بنيامين منها، تركها تذهب إلى ما تريد، فدعته ليراقب ما تعمل في المظاهرة، ومزحت معه قائلةً: ما رأيُك أن تذهب وترى أختك، هل تصلح للسياسة أو لا؟
فلأنه كان يحبها ويأنس بكلامها، وافق حتى يُحقق لها السعادةَ، التي يتوقعها منها لو ذهب، وفعلاً بدأ يُراقبها من بعيد، وكيف تتكلم مع العرب، وتمشي معهم وتضحك وكأنها منهم، واستغرب أنَّها ترمي الحجارة معهم، فكان مندهشًا من تصرُّفاتِها وإيمانها بهؤلاء العرب، ولكن هذه المظاهرة لم تستمر كعادتها هكذا: رمي حجارة، ومضايقات من اليهود، بل اشتدت المواجهات حينَ ضرب يهوديٌّ طفلاً على رأسه بمُؤخرة بندقيته، فأدى ذلك لفقد الطفلِ لوعيه، وأرادوا أن يسعفوه، ولكنَّ الشرطةَ منعتهم، وبدأ النُّشطاء اليهود، ومعهم سارة والنشطاء الغربيُّون الموجودون يومها بترجِّي الشرطة، ولكن دون فائدة.
رأت سارة أبا الطفل وأمَّه ينهاران من كثرة الصُّراخ على الشرطة؛ ليسمحوا بإسعاف ولدِهم، الذي بدأت حالته تسوء، وكان هذا المنظر، كمنظر ذلك الرجل الذي قُتِلَ، وكان سببًا في تغييرها؛ لتماسُك عائلته يومها.
والآن هذان الأبوان رأت خوفهما على طفلهما وحنانهما، الذي كان أكثر ما يؤثِّر بها لفقدها له، فلا أبوها معترف بها، ولا أمها تهتم بها، وكل يوم مع صديق، فقامت بعد أن رأت هذا المنظر، وأخذتِ الطفل من أمه، وركبت سيارتها؛ لتُسعفه، ولكن الشرطة سحبوها، ورموا الطفل على الأرض رغم جرحه ونزفه، فلم تحتمل الأم، خاصَّة أنَّها رأت ابنها وكأنه قد مات، فاستسلمت لموته، وجاءت تهجم على الشرطي هي وأبوه وبعض السكان.
فلاحظت سارة أنَّ الطفل لم يَمُت فأخذته؛ لعلها تهرب به مستغلةً زحام الناس وهم يتشاجرون، ولكنَّ جنديًّا آخر كان منتبهًا لها ويَملؤه الغيظُ منها، ومن عطفها على الطفل العربي؛ لمعرفته بيهوديتها، فقام ودهسها بسيارته التابعة للشرطة مُصورًا الأمر على أنَّه بغير قصد، فلم تقم سارة من مكانها وبقيت ميتة في أرضها.
كان بنيامين يرمق ذلك كلَّه، فلما حدث ذلك لسارة، هرع إليها مرعوبًا من أجلها، ولكنَّه لم يلبث أن عَرَفَ موتَها وموت الطفل الذي معها، فكانت هذه الحادثة من أشدِّ ما مر به ألَمًا، فبعد أن وجد له أختًا أحبَّها، وسمعها وسمعته، فقدها في وقت قصير جِدًّا، وتذكر كلامَها عن العرب، ودفاعها عنهم، فعرف في قرارة نفسِه دون أن يعترف بذلك أنَّها كانت ضحيةً من ضحايا ظلم اليهود، حالها كحال العرب التي كانت تؤمن بأنَّهم ظُلِموا.
وحزن أفخاي أيضًا على ابنته، التي لم يكن بقادر على أن ينسبَها له؛ لزواجه، مع أنه نسب طفلاً ليس بطفله له، وعلمت إلين بالأمر، فانزعجت بداية، ولكنها في النهاية قبلت الأمر، فما عمله أفخاي من خيانتها، فهي عملته، وتعمله أيضًا وتخونه، خاصَّة أن ابنته ثَمرة هذه الخيانة قد ماتت، ولكنَّها أيضًا علمت أن سبب تأخير أفخاي لمجيئه إلى القدس هو أنَّ سارة وأمَّها كانتا في أمريكا، وأن اختياره للقُدس لم يكن إلاَّ لأنَّهما أتيا إليها.
أمَّا الحدث الآخر الذي جرى مع بنيامين بعد هذين الحدثين، وكان له أثرٌ في حياته، وفي اتِّخاذ قراراته: عندما استيقظ يومًا وهو يشعُر بألم في بطنه ورأسه، حتى إنَّ جسمه كله لم يكن على ما يُرام، وبعد أن قرَّر أن لا يذهب إلى الجامعة، تذكَّر أن لديه محاضراتٍ مهمة، عليه عدم الغياب عنها، فأخذ بعضَ المسكنات وذهب إلى جامعته، ولكنَّه بَقِيَ متعبًا، ولا يكاد يدرك ما حوله، فأراد في الاستراحة أن يذهبَ لأحد المقاعد؛ ليرتاحَ قبل أن يعودَ لبيته، ولكنه أُغْمِيَ عليه قبل وصوله للمقعد، فسقط أرضًا، فرَكَض إليه ثلاثةُ شبان؛ لينقذوه ونقلوه في سيارتهم إلى بيت أحدِهم؛ ليسعفوه هناك.
وفعلاً أسعفه الشابُّ صاحبُ البيت الذي أسعف بنيامين إليه، فلم يكن به إلا البرد، فأعطاه بعضَ الأدوية اللاَّزمة، التي حسَّنت حالته، فلما حاول بنيامين النهوضَ؛ ليذهبَ إلى بيته، رفض هذا الشاب؛ حتى لا يعود ويُغمى عليه مَرَّة أخرى، وطلب منه أن ينامَ قليلاً؛ حتى يتأكدَ من شفائه، وفعلاً نام بنيامين نومًا عميقا بهدوء وسكينة، حتى إنَّه أطال النوم على غير عادته، ثم استيقظ على صوت جميل لم يسمع مثلَه من قبل، ولكنَّه شعر أنَّه يألفه ويعرفه، مع عدم مَعرفته به.
فسمع له باهتمام وشعر بانشراح صدره، واطمئنان لم يشعر به من قبل، وكان كُلَّما أراد أن ينادي على صاحب الدار؛ ليعودَ إلى بيته، كان جمالُ هذا الكلام يَمنعه؛ ليكسبَ وقتًا أطولَ في سماع هذا الكلام، ولكن ما أراد تأجيله حدث، فقد دخل الشاب صاحب المنزل، واعتذر له أنَّه تأخَّر عليه؛ لأنه يظن أنه ما زال نائمًا، فقد دخل عليه عِدَّة مرات ووجده نائمًا، فقال له: لِمَ لَمْ تنادِ عليَّ؟ وكيف حالك الآن؟
• لا عليك، الآن استيقظت، وأصبحت بأحسنِ حال، وأريد أن أذهب لمنزلي.
• تعود لمنزلك! مستحيل، فنظر إليه بنيامين مستغربًا مع شعوره بالخوف، ثم حدث نفسه: أيعقل أن يعملوا بي مَكروها؟!
• ما بك؟ هل تريد أن تذهب من دون طعام، فقد اقترب المغرب، وأنا متأكِّدٌ أنك لم تتناول شيئًا اليوم، فكيف تقوى على المشي في حالتك هذه؟
• شكرًا لا داعي للطعام، مشوار الطريق فقط، وأتناول طعامي.
• الغداء جاهز، سأحضره فقط، فوافق بنيامين على البقاء وهو يعلم أنَّه لم يبقَ إلاَّ ليكسبَ وقتًا أكثر؛ لسماع الكلام، الذي ما زال موجودًا، والذي أخذ لُبَّه، ولكنَّه في الوقت نفسه سأل نفسَه: ماذا يُمكن أن يكونَ هذا الذي يسمعُه، ومَن هؤلاء؟ أيعقل أنَّهم مسيحيون ممن يعيشون في القدس؟ ولكن هذا الذي يسمعه لم يسمعْه عند مسيحيين، ولكن تفكيرَه قُطِعَ بدُخول الشاب مع الطعام، وبدأا يأكلان، ثُمَّ فجأة توقَّف الصوتُ ولم يعد يسمعه، فأزعجه ذلك، ولكن لم يرد إظهارَ هذا الانزعاج، ثُمَّ سأل الشاب: ما هذا الصوت، فرد الشاب: وأي صوت؟!
• الذي كنا نسمعه وقُطِع.
• ليس لدينا أصوات، حتى الأطفال طلبنا منهم أن يبتعدوا وهم يلعبون؛ حتى لا يزعجوك.
• لا، لا، صوت آلة التسجيل، كأنَّه أغانٍ، أو ما شابه، فردَّ الشاب مستغربًا من جهله: غريب حقًّا، الآن فهمتك، هذا ليس أغانِيَ، بل قرآنٌ كريم، فهذه أمي أم سليم تُحِبُّ أن تسمعَه وهي تعمل، فهي سعيدة بآلة التسجيل، التي جلبتُها لها منذ أيام قليلة، فوجدت فيها ضالَّتها؛ لتسمعَ القرآن دائمًا، والآن أرادت صلاةَ المغرب؛ لذلك أغلقته، ولكن ألاَ تسألني لِمَ استغربت؟
• لِمَ؟
• فعلاً شيء يُثير الاستغراب، أيعقل أنْ لا تُميز صوتَ القرآن من الأغاني، فأغلب من عرفتهم من اليهود يعلمون أنَّ هذا قرآن.
شعر بنيامين بالحرج من جهله، ولكن حاول أن لا يظهر ذلك الحرج، فسأل: أتقصد الكتاب المقدس عند المسلمين؛ يعني: أنت مسلم؟!
• وهل يزعجك أن تكونَ في بيت مسلم؟
فوجئ بنيامين من سُؤاله، وتذكَّر كلامَ أمِّه إلين، التي علمته أنْ لا يظهر بُغضَه للمسلمين، فقال مستدركًا؛ حتى لا يظهر ارتباكه، أو أنَّه تأخر في الرد: لا، لا، لِمَ تقول ذلك؟ ولكني لم أنتبه إلى أنَّك مسلم في البداية، أمَّا عن جهلي بالقرآن، فهذه أول مرة ألتقي أنا ومسلم مباشرةً، ولا أعلم الكثيرَ عن دينكم.
• غريب، فمن كتبك يظهر أنَّك تدرس الصَّحافة، وعلى الصحفي أن يكون له اطلاعٌ على كل شيء، فما بالك بمن احتللتم أرضَه، واغتصبتم حقه؟!
انزعج بنيامين من كلامِه، وقال: هذا كلام مُضلل، وليس صحيحًا، بل نحن عُدنا إلى أرضنا، وأنتم مَن عليكم أن تتركوا لنا أرضنا، التي استوليتم عليها لمئات السنين.
• لا يمكن لمحتل أن يبقى مئات السنين، فهذا مستحيل، فالمحتل لا يبقى أكثرَ من عشرات السنين، أمَّا أصحاب الأرض هم من يبقَوْن لمئات ولآلاف السنين.
لَمْ يرغب بنيامين في مُتابعة الجدل؛ لأنَّه يرى أنَّ الوقت غيرُ مناسب، فقال: لنترك هذا الجدل العقيم، فالوقت غير مناسب، ولأسألك سؤالاً حَيَّرني، وهو: لِمَ أسعفتني ما دمت غير يهودي، وأرى في عينيك كُلَّ هذا الكُره لي ولليهود، فكان من الطبيعي أن تتركني وتتمنى لي الموتَ، أو على الأقل تترك إسعافي للشباب اليهود الذين كانوا موجودين، وبالتأكيد سيكونون بعدد أكبر منكم أيُّها المسلمون؟
• أولاً: أنا لا أكرهك لشخصِك، ولا أكره اليهودَ لشخصهم، بل أكره فيكم احتلالَكم، وظُلْمَكم، ومَجيئكم إلى هنا بغير حق، ثم فأنا وأنت لسنا بحرب حتى أتركك أمام عيني يُغمى عليك، ولا أُحرِّك ساكنًا، حتى ولو كنت في حرب، فديني يأمرني بأنْ أعالِجَ المحتاج، فما فعلته شيء طبيعي، وشيء إنساني، وهذا ليس فعلي فقط، بل فعل كل مَن أسعفك معي، ولكن اختيار بيتي لم يكن إلاَّ لأنني أدرسُ الطبَّ، فأتينا بك إلى هنا؛ ليسهل إسعافك.
لم يعلق بنيامين على كلامه بكلمة، ولكن قال سائلاً: قلتَ: إنَّ أمَّك أم سليم، فهل أنت سليم؟
• سليم أخي الأكبر، أمَّا أنا فسالم.
• أنا بنيامين، تشرفت بمعرفتك، وأشكرك على ما عملت معي.
هنا دخلت أم سليم؛ لتطمئنَّ على ضيفها، فكان أول ما لفت انتباهَ بنيامين فيها هو حجابها، فسعد برُؤيتها، وانشرح صدره، وهو ينظر إليها ويبتسم في وجهها، فقالت أم سليم بلغة عبرية ثقيلة: كيف حالك الآن؟ فرد بنيامين بكلِّ ارتياح عليها: أنا بخير، شكرًا لك على سُؤالك، وشكرًا لك على الطعام اللذيذ، شكرًا لكم جميعًا على ما فعلتموه معي.
• لم نفعلْ إلاَّ واجبنا، وما ينبغي علينا فعله، والمهم أنْ تعودَ إلى أمِّك سالِمًا، فهي الآن من المؤكد قلقة عليك.
• شكرًا لك، سأذهب حالاً، ولكن لا يوجد ما يدعو للقلق، فهي معتادة أن أخرج وأتأخر.
• لا بل الأم تقلق وتشعر بولدها، فأنا لا أسمح لأولادي أن يتأخروا عليَّ دون أن يُطمئنوني، فسكت قليلاً، فقد قرع هذا المعنى قلبَه، وقال: تقلقُ عليَّ! لَمْ أرَ هذا من قبل قطُّ، فتنهد بينه وبين نفسه، فكم تأخرت ولكنها لم تعبأ بتأخُّري، ولم تقل لي: إنَّها قلقت عليَّ ولو لمرة! فانتبه سالم لسكوتِه، فسأله: هل عاد التعبُ مجددًا؟
• لا، لا، بل عليَّ الذهاب؛ لأني تأخرت كما قالت أم سليم.
وفعلاً قام الشابان مع بعضها، فقد أصرَّ سالم على مُرافقته؛ خوفًا من أن يُغمى عليه مَرَّة أخرى وهو يسير منفردًا، وهما في الطريق.
وهما لا يزالان في الحارة العربية شاهدا عائلةً خارجَ بَيْتِها، والشرطة تهدمه، وامرأة تصرُخ، ويظهر من طريقة صراخها أنَّها تشتم وتسب اليهود، فسأل بنيامين سالِمًا عما تقول المرأة وما بها، فضحك سالم بسخرية، وقال: ألاَ تَجد ما بها؟ ألاَ ترى أنَّهم يهدمون بيتَها، ويطردون أهله منه، وهنا جاءت سيارة شرطة وأجبروا العائلة على الصُّعود إليها، وذهبوا بهم، فعاد بنيامين؛ ليسألَ: أين يأخذونهم؟
• يبعدونهم إلى القُدس الشرقية، تعلم اليهودَ وأعمالهم! يريدون أن يُخرجونا جميعًا من بُيوتنا، فقال بنيامين: وأنت كيف عرفتَ ذلك؟ فابتسم سالم، وقال: كيف عرفت؟! عرفتُ - أيها اليهودي - لأنَّهم عرب ومسلمون مثلي، وأعرف أخبارهم، وأعرف مشاكلَهم، لست مثلك لا تعلم عنَّا أيَّ شيء.
فهكذا أنتم - أيُّها اليهود - تأتون إلى أرضنا، ثُم تُعمون أعينَكم عَمَّا نَحن فيه من ظُلْمٍ، واضطهاد، وقتل من أسيادكم، بل وتؤيدونهم عليه؛ لمصلحتكم فقط، ولتعيشوا منعمين، أتظُن أنِّي لَمْ ألحظ بُغضك لنا، حتى إنَّك من كُرهنا لا تعلم معلومةً عَنَّا، حتى تمييز قرآننا لم تقدر عليه، والآن دَعْك من هذا، ولْنمشِ إلى غايتنا، وسيأتي من سينتقم لهؤلاء المظلومين.
فقال بنيامين: أنا أول مرة أرى هذا المشهد، فرد سالم مُتبَسِّمًا: ولكننا نراه يوميًّا، بل كل ساعة، وليس هنا فقط، بل في أنحاء فلسطين، وأنتم لن تَرَوْه، حتى ولو شاهدتموه عَشَرَاتِ الْمَرَّات؛ لأنَّكم لا ترون إلا مَصلحتكم، وما يسعدكم، حتى ولو كان ما يُسعدكم يُؤذي غيرَكم وعلى حسابهم، ويُسبب لَهُم الشَّقاء، وبعد هذا الكلام سكت الاثنان، ولم ينطقا حتى وصلا بيت بنيامين، الذي دخل بيته، وعاد سالم هو الآخر إلى بيته.
دخل بنيامين البيتَ، فإذا أمه جالسة تسمع بعضَ الأغاني التي تُحِبُّها، فقالت: أهلاً بُنَيَّ، كيف كان يومك، كأنَّك تأخرت قليلاً، فقال بنيامين محدثًا نفسه: تأخرت قليلاً! يعني يا أم سليم، أمي لم تقلق عليَّ.
• لم أفهم ما قلت، ما بِكَ؟ لِمَ لا ترد عليَّ بصوتٍ عالٍ؟
• لا، أقول فقط: ألَم تقلقي عليَّ؛ لتأخري؟
فضحكت، وقالت: أقلق عليك! وما الداعي لذلك؟ كنت في الجامعة وتأخرتَ قليلاً، فما الذي حصل؛ لأقلق؟
• لا، لم يحصل أي شيء، أُغْمِيَ عَلَيَّ فقط، ثُمَّ قَصَّ عليها الخبر، وقال: إنَّ أحد شباب الجامعة أسعفه، وطمأنها على نفسه، ودخل غرفته، ولم يَخْطِر ببالها أنَّ ذلك الشاب مسلم، فهو لَم يقل لها: إنَّه مسلم؛ حتى لا يفتحَ المجالَ لجدالٍ ليس مستعِدًّا له الآن، ثم أمضى باقي ليلته، وهو يُفكر فيما حدث، وكيف أسعفه مسلم، وتركه اليهود، وطريقة استقبال سالم وعائلته له، ومنظر أم سليم الذي شرح صدره، والقرآن الذي أعجبه، وكأنَّه يألفه، ثُمَّ العائلة التي طردها اليهودُ.
واستمر هكذا حتى ضاق صَدرُه، وانزعجَ من كلِّ ما حدث، والتساؤلات التي ليس لها جواب، ثُمَّ غلبه النوم وهو على هذا الكرب، فرأى في نومه تلك المرأة المحجبة، التي يرى النورَ في وجهها، ثُمَّ ابتسمت له، وهنا استيقظَ على ابتسامَتها كعادتِه، وعندما يرى ذاك المنام، يستيقظ مُرتاحًا مُنشرحَ الصدر، ولكنَّه صار أكثرَ شوقًا لمعرفة تلك المرأة، وسِرِّ مَجيئها في نومه، وحتى سر تعلُّقه بها، فقد كان يشتاق لرُؤيتها إن تأخَّرت، ولم تأتِه في منامه، ثُمَّ ترك هذا التفكير، وقام إلى جامعته.
وفي الجامعة بحث بنيامين عن سالم، حتى وجده، ولَمَّا التقى معه شَكَره على كلِّ ما عمل له، وطلب منه أن يكونا زميلين، ولكنَّ سالمًا قال له: إنَّه ليس هناك أيُّ سبب ليكونا زميلين، وإنَّه لا يرغب في التعامُل معه؛ لكونه يهوديًّا ومُحتلاًّ لأرضه، ولكن بنيامين قال له: أنا مُصِرٌّ أن أكونَ زميلاً لك، وألتقي معك دائمًا، وليكن هذا مُجرد تعامُل يفرضه الأمر الواقع، فأنا موجود في القدس كيهودي شئت أم أبيت، وأنت موجود في القدس كمسلم شئت أنا أم أبيت، فرد سالم: وهل هكذا ستتعاملون معنا في المرحلة المُقبلة؟ تفرضون علينا ما تريدون، وعلينا القَبول، كأمرٍ واقع؛ يعني: سياسة الأمر الواقع؟
• كُلُّ شيء تُسَيِّسُونه؟! أنا أَصْدُقك القول في أنِّي أرغبُ في التعامُل مَعَك بعيدًا عن السياسة، وأرغب أنْ تكونَ لِي صديقًا، وليس زميلاً فقط، فأنت عملت معي معروفًا، وأنا لا أنسى المعروف.
• غريب، هل فعلاً لا تنسون المعروف؟! فهذا أول مرة أسمعه.
• لأنِّي يهودي فقط تقول هذا الكلام، ولكنِّي أصدُقك أنِّي دائمًا أُظْلَم من الآخرين لمجرد أنِّي يهودي، ولكن تعاملْ معي، وستُغيِّر رأيَك في اليهود، وتعلم أنَّهم يعترفون بالجميل.
• لو رأيت بعيني لا أصدق، وإن كنتَ تظُن أنِّي حين أسعفتُك صرتَ حبيبًا لي، فهذا ظنٌّ خاطئ، بل أنت يهودي مغتصب، ولن أعاملك إلاَّ على هذا الأساس، أمَّا ما حدث بالأمسِ فانسَه، ذلك أفضل.
• كنت أعرف أنَّكم - أيها المسلمون - قُساة، لا تُحبون أحدًا، ولكن لم أكن أتوقع أنَّكم كذلك إلى هذه الدرجة.
هنا ضحك سالم كثيرًا، ثم قال: هكذا أنتم - أيها اليهود - تجرمون، ثُمَّ تتهمون غَيْرَكم بارتكاب الجريمة، هنا غضب بنيامين وتركه وذهب، فشعر سالم بارتياح أن تَحرَّر من هذا اليهودي، الذي اعتبره يريد فرضَ نفسه عليه.
ولكن بنيامين لم يستسلم، بل على العكس أصبح لديه الفضول؛ ليتعرف أكثرَ على المسلمين نتيجةَ كل ما حدث معه، وخاصَّة أنَّه أحيانًا يظهر بقلة اطلاعه، فهو لم يُميِّز صوتَ قرآن المسلمين، وظهر بموقفٍ لا يُحسد عليه أمام سالم، مع أنَّه يفترض أنَّه صحفي، وعليه الإلمام بكثير من المعلومات، خاصَّة عن أعدائه المسلمين، الذين يرى أن عيشَهم مع اليهود شيءٌ حتمي.
وصار يلوم نفسَه؛ لكونه ابتعدَ كل البُعد عن معرفة المسلمين؛ بسبب كرهه القديم لهم، فهذا كان غيرَ مُبرر بالنسبة له؛ ليجهلَ حقيقتهم؛ ولذلك جاء بعد عِدَّة أيام، وجلس بجانب سالم دون أن يستأذنه كالمرة الأولى بأن يكون له صاحبًا، بل على العكس بدأ يتكلم معه، ويفرض نفسه عليه؛ لعَلَّه يأتي اليوم الذي يتقبله فيه، ويجعله صديقًا له، وبدأ يكلمه عن الجامعة، وعن دروسه، وعن حبه للصحافة، وسالم يسمع من غير أنْ يتكلمَ إلاَّ ببعض الأجوبة، التي يضطر إليها، وفي النهاية التفت سالم إليه، وقال: وماذا بعد كل هذا الكلام؟ وما سبب حديثك معي عن كل ما قلت؟ وما الذي تريده؟
• إلى ذلك الحد كلامي بغيض إليك؟ ما الذي عملتُه لك، فأنا زميل لك وأرغب بالحديث معك؟
• ما يثيرني هو ما هدفك؟ وما الذي تريد مني؟ عجيب أمركم - أيُّها اليهود - حتى إنَّكم تريدون أن تفرضوا علينا أنْ نتكلمَ معكم، ونصاحبكم، أم يوجد هناك مَن هو وراءك، وتخططون لشيء؟
فَهِمَ بنيامين تَخوُّف سالم، ولكنه في الوقت نفسه انزعج، فهو يشعر بالقيد، فكونه يهوديًّا هذا يعني أن لا يثقَ به مُطلقًا، وهذا ما لحظه في تعامُله مع ماري، والآن مع سالم، وحتى من معرفته باليهود، فهو مُقتنع بأن اليهودَ ليس من مصلحة أحد أن يُصاحِبَهم؛ لأنَّهم لديهم أثمانٌ للمصاحبة، ولا يمكن الوثوق بهم، وبعد كل هذا التفكير قال لسالم: أنا لا أفهم لِمَ كل هذه التساؤلات؟ ولِمَ هذه الشكوك، وكل ما عملته أني تعرفت على شخص وَثِقْت به، وأردت مصاحبته؟ فهل هذا منبوذ إلى هذا الحد؟ ثم لماذا تعتقدون أن وراء كل عمل شيئًا مخفِيًّا؟
• لأنَّه هو فعلاً وراءَ كلِّ عمل تعملونه شيءٌ مخفي، ثُمَّ أتعرف ما المنبوذ عندنا؟ هو طريقة تعامُلكم، وخبثكم، ومُحاولتكم السيطرة، وفرض أنفسكم بأي طريقة، المهم مصلحتكم، وتأتون بخبث ودهاء، وليس بصراحة ووضوح لأهدافكم، فأنا سأُرضِيك بعرضٍ أعرضه عليك، فهل أنت جاهز؟
ولكن بنيامين شرد قبل أن يُجيبه، وصار يفكر في كلام سالم، ويحدث نفسه: ماذا يا بنيامين، فهؤلاء المسلمون يعرفون اليهودَ، فها هو يصفنا كما نحن، فهكذا فعلاً اليهود بعد أن عاشرتهم بشتى شرائحهم، فلِمَ أنت لا تعرف المسلمين يا بنيامين؟
ولكن سالم قطع سلسلةَ أفكاره وصاح: هل أنت غير جاهز؟ أراك لا ترد.
• بل أنا جاهز، قل ما عندك.
• أنا أوافق على التعامُل معك، وطبعًا ليس كصديق، فهذا من المستحيل، ولكن كما قلت كزميلين، وإن وجد لفظٌ أبعد، فأنا معه، فأنتم حتى كزملاء لا نرغب بكم.
• أرجوك، أنا لا أسمح لك بإهانتي، فأنت تتعدى حدودك.
• أنا لم أجبرك على التعامُل معي ولكن ما دُمتَ تريد، وأنت مَن تلح، فتحمَّل، وشَرطي هو... أنا أوافق على ذلك إن لم تأتِني بهذه الطريقة الخبيثة، وسياسة الأمر الواقع، وأن تقول لي بصراحة: ماذا تسعى له بتعامُلك معي؟ وما أهدافك؟ فأنا إلى الآن لم أفهمْ إصرارَك على ذلك.
• وإن قلت لك، فما يبين لك أنِّي صادق؟
• شيء سهل، فالصِّدق مكشوف مَعروف، والكذب كذلك، فأحذرك من التلاعب.
• سأقول لك، وبكُلِّ صراحة وعليك تصديقي؛ لأنَّ هذا هدفي، ولم أكن أود أن أخبرَك به، ولكن قدرت تخوفك... هدفي الأول: أن أعرفَكم، وأعرف كل أمر عنكم.
• من تقصد؟
• المسلمين، فأنت شاهدتني، وكيف لَمْ أميِّز قرآنَكم، والذي ينبغي أن أكونَ قد سمعته كثيرًا، خاصَّة أن لي حوالي السنتين هنا.
• وبعدها.
• وما تقصد ببعدها؟
• وبعد تعرُّفك على المسلمين، ماذا ستعمل؟ هل ستُسخِّر قلمك ضِدَّ الإسلام؟
• هذا ليس من صلاحيتك، أنت طلبتَ مني معرفةَ هدفي، وأنا أجبتُك، ولن أسمحَ لك بعدها بالتدخُّل في شأني.
• وهل أعطيك مادتك جاهزة؛ لتجعلَها طريقَك للنَّجاح عن طريق شتائمك للإسلام.
• إن كان دينكم سِرًّا، فلا تكشفه لي، وإن لم يكن سِرًّا، فأنا من اليوم صار هذا الهدف هدفي، وسأبحث وأعرف كلَّ ما أريده عن دينكم.
• أمَّا عن ديني، فأكيد ليس فيه شعيرةٌ واحدةٌ هي سِرًّا لا نكشفه، بل على العكس، فإنَّ شريعتنا من أوضحِ الشرائع، ولن تَجِدَ دينًا يكشف عن تعاليمه بكل وضوح أكثرَ من الإسلام، ولكن هل تقصد بهدفِك سَبَّ ديننا؟
• بل هدفي كما قلت لك: معرفته، وأمَّا هل سأعلق عليه أو لا؟ فهذا اتركْه للأيام تقرِّر ماذا سأفعل؟ ثُمَّ لِمَ أنت خائف، فأنا لَم أصبح صحفيًّا بعدُ، ولم أجرب الكتابةَ في الصُّحف؟
• خائف! يا لَلعجب، وممن أخاف؟ وعلى ماذا أخاف؟ أخاف منك، وعلى ديني؟! إذًا فالآن آمنت بأنَّك فعلاً لا تعلم شيئًا عن ديننا، ولو عرفته لعلمتَ أنه أكبر من أن يتأثر بنقد هنا أو شتم هناك.
• إلى هذا الحد تَثِقُ بقوة دينك، هذا يُثير فُضولي، وأرغب في التحدي؛ ليأتي اليوم الذي أنتصر عليك فيه، وأوصِّل لك رسالةً غير ما تنطق به، وهي أن دينك ليس قويًّا بهذه الصورة التي تتوهم.
• يا لخبثك، هل بتصوُّرك أنْ تناقشني، ثم تنتصر، ثم أتأثر بفصاحَتِك وحُجَّتِك، وأصبح يهوديًّا والعياذ بالله؟! عندها سأبصم لك بجنونك إن ظننت هذا.
• هل تستعيذ بالله من أنْ تكونَ يهوديًّا، أولهذا الحد تكره اليهودية؟
• أنا لا أكره اليهوديةَ؛ لأنَّها دين سماوي، ولكني أكره مَن حَرَّفها، وصار يُمثلها شَرَّ تمثيل.
• بدأتَ تُغيظني بكلامك؛ ولذا فالآن هدفي أنْ أعلمَ هل ستجيبني عن أسئلتي؟ وهل وافقت بتعريفي بدينكم؟ وقد نفذت شرطك، وقلت لك عن هدفي.
• نعم، قبلت، ولكن لن نبدأَ اليوم، فأنا على عَجَلة من أمري، فمحاضرتي اقترب موعدُها، إضافةً إلى أنِّي أريد قبل أنْ أبدأَ معك أن أستخير، فربَّما غوصي معك وجدلي لا يرضاه الله.
• وماذا يعني أن تستخير؟
• يعني أطلب من الله أن يَختار لي الخير في التعامُل معك من عدمه.
• وهل يرد إلهك عليك، ويقول لك: عرّفه الإسلام، أو لا تعرفه؟!
• طبعًا لا، والطفل الصَّغير يعلم ذلك "قالها استهزاءً"، ولكني أدعو اللهَ، وما يُيسِّره لي أومِن أنَّه الخير، ولكن أترى كم ديننا جميل؟! فأنت لا تعلم الغيبَ، ولا تعلم أين الخير، فدلك الله على هذا الدُّعاء ليكون معك بعده، وييسر لك الخير، ثُمَّ نظر إلى بنيامين مبتسمًا، وقال: هكذا تعلمتَ عن الإسلامِ أمرًا، ولعله توفيق من الله أن تكونَ الاستخارة هي المعلومة الأولى، والآن أنا أضطر للانصراف، فلدي محاضرة.
• شيء غريب أن تطلبَ من أحدٍ أن يختار لك ما تعمل، أليس ذلك مقيدًا للحرية؟ وعلى كُلٍّ لن أؤخرك، ولكن متى اللقاء القادم؟
• يا بنيامين، إذا آمنت أن الله يعلم الغيبَ، وهو على كل شيء قدير، وله الكمال في كل شيء، والخير كله منه، عندها ستكون الاستخارةُ هي راحتك، وتكون عبوديتك له عِزًّا لك، أما بالنسبة للقاء الآخر، فمتى أحببت، والآن عن إذنك.
• مع السلامة.
كانت هذه الجلسة هي بداية معرفة بنيامين بالإسلام، وبداية قربه من سالم، وصارت اللِّقاءات بينهما بشكلٍ مُستمر لا يكادان يغيبان عن بعضهما أكثر من يومين، أمَّا عن اللقاء الأول بعد جلستهما هذه، فقد كان سؤال سالم لبنيامين بداية عن بلده الأصلي، ولما علم أن بلدَه هي أمريكا، استغرب غايةَ الاستغراب، وقال له: إنَّه لم يكن يتوقع قطُّ أن يكونَ أمريكيًّا، فسأله بنيامين عن توقُّعه، فرد سالم بأنَّه كان يظنه يهوديًّا شرقِيًّا.
هنا استغرب بنيامين كلامَه، خاصَّة أنه سمع هذه الكلمة من قبل من أخته سارة، قبل أن يعرفَ أنَّها أخته، والتي قالت له يومًا: إنَّها معجبة بشكلِه، الذي يشبه شبابَ المشرق؛ ولذا سأل سالِمًا عن سبب توقُّعه الغريب هذا، فرد سالم عليه بأنَّه من الطبيعي أن يظن من يراه هذا؛ لأنه يشبه الشرقيِّين، وقال له: إنَّه كان يظن أنه يهودي عربي أو تركي، وأنه لم يستبعد هذا التوقُّع إلاَّ بعد معرفته بجهله للإسلام والمسلمين.
هنا استغرب بنيامين كلامَه، ولكنه سكت؛ لأنَّه لم يعرفْ ما الذي سيرده؛ ولذا تابع سالِمٌ كلامَه، وقال: والآن دعنا من الأشكال، ولأسألك بداية: ما الذي تعرفه عن الإسلام؛ لتسهلَ عَلَيَّ ما الذي سأُطْلِعُك عليه؟ فرد بنيامين بارتباك، فهذا أصعب سؤال يواجهه؛ لأنَّه لا يعلم الكثير، وقال: ... قلت لك: أنا لا أعرفُ الكثير، فمثلاً أعلمُ اسمَ كتابكم، واسم نبيكم، وعندكم صلاة، وشهر تصومونه... وهناك معلومات رُبَّما تزعجك؛ ولذا سأؤجل قولها.
• لا... لا تُؤجل شيئًا، فنحن معتادون على إثارةِ الشبهات من جميع المستشرقين، وكثير من الغربيِّين، فقل ما شئت، ولكن سأقول لك صراحة شيئًا نسيت أن أذكره في البداية هو: أنَّني سأُطْلِعك على ما أعلم، فأنا لست عالِمًا؛ ولذا ستكون معلوماتي على حسب علمي؛ ولذا عليك أنْ تفهم شيئًا، وهو أني عندما تسألني عن شيء لا أعلمه أو شبهة لا أقدر على الردِّ عليها، فهذا جهل مني، وليس عيبًا في الإسلام.
• أرى أنَّك تُحب دينك كثيرًا، وتقدم له العذر من البداية.
• لا، ما قلته ليس عذرًا عن الإسلام، ولكن هذه هي الحقيقة، فهل تعلم أنت كل شيء عن اليهودية؟ وهكذا أنا، وهذا لا يعني أنِّي أجهل ديني، بل على العكس، فأنا أعلم كُلَّ ما ينبغي لي أنْ أعلمه، ولكنَّ الأمور الكبرى هي ما أقصد، والآن: ما الذي تعلمه، وتخشى أن يزعجني؟
• مثلاً... المرأة، ولكن وقبل أن يكمل كلامَه تبسَّم سالم ابتسامةً لَم تعجب بنيامين؛ ولذا سأله: ما الذي يَجعلك تبتسم، هل قلت ما يُضحك؟
• لا، لا، ولكن تبسمت؛ لأَنَّ شبهتك هذه أصبحت معروفة، ودائمًا أكثر الشبهات التي تثار هي عن المرأة وظلمها، ولكن أرجو أن تكمل.
• ولِمَ لا تقول: إنَّكم تعرفونها؛ لأنَّكم فعلاً كذلك، تظلمونها، وتحتجزون حريتها، وتَمنعونها من العلم، وسمعتُ مَرَّة أنَّ الرجُلَ عندكم له أنْ يتزوجَ عدة مرات، أليس هذا ظلمًا للمرأة، وجرحًا لكرامتها، وأخذًا لحقوقها، إضافة طبعًا لإلزامها الحجاب؟! فمِنْ ناحيةٍ هو يُتعبها صيفًا، ويسبب لها الضيقَ؛ لارتفاع درجات الحرارة، ويقيد تحركاتِها، ومن ناحية أخرى، فهو يحرمها من إظهار جمالِها، وزينتها، وإحساسها بالأنوثة، وأمور أخرى كثيرة، مثل: حرمانها من إعطاء رأيها، وعدم السماح لها بالعمل، وغير ذلك كثير.
• نعم، فعلاً وغير ذلك كثير مما تُكيلونه من الاتِّهامات ظُلمًا وعدوانًا للإسلام وللعرب، ولكن طبعًا أنا مُهمتي أن أُطلعَك على الإسلام، وليست مهمتي أن أردَّ على الشبهات؛ يعني: أنا عَلَيَّ فقط أن أعرفَك على الإسلام بشكلٍ تقليدي.
ولكن لا مانعَ من أن أناقشَك قليلاً بما أعلم، ولأسألك سؤالاً وأنت عشت بأمريكا، وعشت هنا، وتعرف الغربيِّين واليهود... هل من الممكن أن تذكر لي كم عشيقة للأمريكي أو لليهودي؟ وتذكر كم عشيقًا للأمريكية أو اليهودية؟ وحتى إن لم تُجِب، فأنت أعلم مني بهذا الأمر، وإن لم يفهم بنيامين سببَ سؤاله، ولكن مباشرة تذكَّر أباه وأمَّه، فهما أقربُ مثالٍ له، وبَقِيَ يفكر فيهما زمنًا، ولأنه أطال التفكير سأله سالم: أليس لديك جواب؟ ألهذا الحد الرقم كبير، ولا تقدر أن تستوعبه؟
• بل أتساءل: ما هدفك من السؤال، وافرض أنَّ هناك لكلٍّ منهما عشيقًا، ما يضرك أنت؟
• تبسَّم سالم، ثم قال: ما يضرُّني إن كان لكل واحد منكم عشيقة وصاحبة، إذًا وأنتم ما يضرُّكم إن تزوج الرجل من أربعٍ بطريقة شرعِيَّة مُشرّفة أمامَ كل الناس؟ فما هذه الازدواجية في المعايير عندكم؟! تُحِلُّون لكم أن يكون للرجل عدة صاحبات، وللمرأة عدة أصحاب، وتُحلون خيانةَ الأزواج، ولَمَّا يتزوج المسلم زواجًا شرعِيًّا، بمعرفة زوجته، وبإعطائها كاملَ حقوقها، وإن لم يفعل يتوعَّده الله بالعقاب - تكيلون له الاتهامات، فأيُّ حكم حكمكم؟ وأيُّ حقوق تعطونها للمرأة؟ لِمَ تسمحون بكل هذا الشذوذ؟
• وهل ما قلته مبرر؟ فالعشيقة يومًا أو يومين، وتذهب ولكنَّ الزوجةَ لا تذهب، بل تبقى وتأخذ حَقَّ الزوجة الأولى، هذا إن كانتا اثنتين، فما بالك بأربع؟
• صحيح يومًا أو يومين وتذهب، ولكن يأتي غيرها وغيرها، والحكاية لا تنتهي، وتبقى الزَّوجة مُهانة دائمًا، ورُبَّما هناك مَن تذهب، ولكن هناك مَن تَحمل وتُنجب ولدًا غَيْرَ شرعِيٍّ، فيخرج بلا أبٍ ولا مُنْفِق، ولا مربٍّ، فينشأ ناقمًا على مُجتمعه، كارهًا له، ويكون مُهَيَّأ للجريمة بكُلِّ سهولة.
فيا سيد بنيامين، لو فكَّرْتَ بشفافية ومِصداقية، ستعلم أنَّ أعمالَكم ونتائِجَها السلبية لا تنتهي، وستعلم أنَّ المسلمَ لو تزوَّج بأربعٍ، وأنجبن له عشرين ولدًا لا يتخلى عن واحدٍ منهم، ولو قُطِّع أو مات جوعًا.
وهنا تذكر بنيامين سارة المظلومة، وبَقِيَ سالِمٌ يتكلم: وأمَّا عن الشبهات الأخرى، فقِسْ على ما قلتُه، فأنتم مثلاً تتخَلَّون عن البنت إن أتَمَّت الثامنة عشرة، أمَّا نَحن فهي في رقبتنا ما دامت على قيدِ الحياة، حتى وإن تزوَّجت، والأم التي ترمونها في مأوى العَجَزة بمجرد أنَّها لم تَعُد تنجز، وعجزت، فنحن نَبْقَى نقبِّل أرجلَها، حتى ولو أصبحت جسدًا لا حَرَاكَ بِه إلاَّ نَفَسٌ يخرج ويدخل، وأَمَّا عن النساء بشكل عام، فكنَّ هنَّ آخر وصية لنبينا r حينَ استوصى بهنَّ خيرًا، فيا سيد بنيامين، شبهاتكم معروفة، والردود عليها بأسهلِ العبارات.
• على كلٍّ، هذه قناعاتكم، والمهم أنِّي عرفت شيئًا جديدًا عن دينكم، والآن أستأذن، فمُحاضرتي ستبدأ بعد لحظاتٍ، أراك لاحِقًا، وذهب؛ لأنَّه لم يَعُد يَحتمل الكلامَ وهو يفكر في سارة، التي ماتت منذ فترة بسيطة، وكانت ثَمَرة ونتيجة الانحلال الخلقي عند اليهود.
عاد بنيامين إلى بيته، ونظر إلى والديه وهم يتناولان معه طعامَ الغداء، فانتبه إلى لونهما الأشقر، وهو صاحب اللون القمحي، ولأول مرة رأى أنَّه لا يُشبههما، وأنَّه بعيدٌ كُلَّ البُعد عنهما، فسأل والدته عن سبب ذلك، وقال لها: إنَّ الكثير من زملائه يُشبهونه بالعرب وهذا يزعجه، فصُعِقَت بهذا السؤال، ولم تعرفْ ماذا ترد؟ ولكنَّها تداركت الموقفَ الذي يُجبرها لأَنْ تجد حلاًّ لهذا اللُّغز، فقالت مباشرة وبخبثها المعهود: وما الذي يَمنع ذلك؟ فليس من الضروري أن يشبهَ الابنُ والديه، ثم تابعت قائلة: وأظن - يا بني - أن سببَ لونك المختلف هو إحدى جَدَّات والدك، التي تزوجها أحدُ أجدادك من اليهوديَّات العربِيَّات، وتعلم أن الجينات الوراثية تبقى لأجيالٍ، وهي تظهر على الأبناء، فلا تبتئس بأقوالِهم، فأنت ربَّما تشبه إحدَى جَدَّاتك، وفعلاً مَرَّت على بنيامين، واقتنع بها، حتى إنَّه ذكرها لسالم في إحدى الجلسات، وكأنه أراد تبرير شبهه بالعرب؛ لأنه يعده كالذنب الذي يخجل منه الشخص.
ولَمَّا انفرد أفخاي بإلين، ضَحِكَ وضحك حتى كاد ينفجر، ولَمَّا سألته عن سبب كل هذا الضحك، أجابها وقال: يا لك من خبيثة! فكيف وجدتِ هذا المبرر الغريب، والذي لا يُمكن أن يَخطِر ببالِ أحد، ولكن أيعقل أن لي جدة عربية؟! ولِمَ لَمْ تكن جدتكِ أنت؟ فردت عليه بكِبْر قائلة: طبعًا عليَّ أن أكون ذكية؛ لأخرجَ من كل هذه التساؤلات، التي يأتي بها ولدك كُلَّ يوم؟
وما يضرك إن كانت جدتك عربية؟ أتعرف أنا ربَّما أتوقع هذا فعلاً، فأنت مُزعِج ومُبغِض كالعرب، فرد عليها دون اهتمام وقال: دَعْكِ من هذا الهُراء، وظلي متيقظة لابنك المصيبة التي أَبْلَيْتِنا بها، وسيأتي اليومُ الذي تندمين فيه على تربيتك له، فما الذي اضطرنا لأن نَجلب هذا المسلم البغيض؛ لنُنفق عليه المال، ونُبْتلى به، ومِن ثَمَّ رُبَّما يأتي اليومُ، الذي يعود فيه إلى أصلِه، ولا نستفيد منه شيئًا، وهنا غضبت إلين غضبًا شديدًا، وصرخت في وجه زوجها: اخرس كُفَّ عن هذا الهُراء، فبنيامين ابننا، وهو يَهودِيٌّ، وسيبقى يهوديًّا، أنت فعلاً معتوه، ولكنَّ أفخاي لم يتركها تُكمِل صراخها، بل تركها وذهب.
كان من الطبيعي أنْ يكونَ سؤالُ بنيامين الأول لسالم في لقائهما الجديد عن أهمِّ شيء يُميز الإسلام كدين، أو المسلمين كأشخاص، فكان الردُّ سهلاً بالنسبة لسالم؛ لأنَّ سببَ تَميز المسلمين شيءٌ معروف وبَدَهِيٌّ لكل مسلم؛ ولذا كان رده: طبعًا ما يميز الإسلامَ شيءٌ واحد، وهو أهم ركن في الدين الإسلامي وهو الوحدانية، فتوحيد الله - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالعبودية والألوهية والطاعة شيء أساسي وضروري لِأَنْ يكونَ الشخص مُسلمًا.
• ولكن الوحدانية هي عند كثير من الطوائف، وليست مقصورة على المسلمين فقط.
• لا، أنت تظُن ذلك، ولكن إن تعرفت جيدًا على توحيد المسلم لربِّه، لعلمت أنَّنا نتميز عن غيرنا بحقيقته فعلاً.
• إذًا هل من الممكن أن تشرحَ لي أكثر؟
• بالتأكيد ممكن، فنحن المسلمين نفرد الله - تعالى - بكُلِّ عباداتنا وشعائرنا، ولا نشرك في إخلاصنا بهذه العبادات مع الله شيئًا، حتى نبينا r ولا نقرِّب أيَّ قربان لشخصه - عليه الصلاة والسلام - ولا حتى بالدعاء، فدعاؤنا هو لله وحدَه، ولا نطلب العونَ من أحدٍ إلا الله.
• ولكن لا يُمكن لأيِّ إنسان أنْ يعيشَ دون مَعونة الآخرين.
• نعم، وهذا نعمله، ونطلب الخدمات والمعونات ممن حولنا، ولكن مع قناعتنا أنَّ هذه أسباب وسنن وضعها الله؛ ليتعايشَ بنو آدم مع بَعضِهم، ولكن في النهاية نُرجِع التوفيقَ لله وحْدَه، فأنا أطلبُ منك مساعدةً، ولكن مُجرَّد مساعدتك هي لأَنَّ الله وَفَّقني ووفَّقك؛ لتساعدني وإلاَّ فأنت سبب لا أكثر.
• ولكن ما الفرقُ بيننا وبينكم، فكلنا نُؤمِن بالله؟ فلماذا تعدُّون أنفسكم أنتم من يعبد الله حَقَّ العبادة؟
• صحيح أنَّ البشر جميعهم يؤمنون بالله، وهذا أمر طبيعي، ولكن ما الفرق بيننا، وبين كل هؤلاء؟ الفرق بسيط، فبالتأكيد لا يوجد أحدٌ إلاَّ ويؤمن بأنَّ الله هو الخالق والقادر والعليم، وغير ذلك من الصِّفات التي لا يُنكرها إلاَّ الْمُلحد، ولكن هل هؤلاء يخلصون العبادة لله، ويؤمنون به الإله الواحد المعبود؟ لا يا بنيامين، فجميعكم تشركون في العبادة بآلهة أخرى مع الله، فمنهم مَن يَجعل لله الولد، ومنهم من يُشرك معه المخلوقات، ولكن نَحن نتشدد في هذا الأمر غايةَ التشديد؛ لأنَّه هو الفاصل عندنا بين المسلم وغير المسلم، حتى إنَّنا لا نذبح لغيرِ الله، ولا ندعو - كما قلت لك - إلا الله.
• ولكن لِمَ كل هذا؟ ألاَ يكفي أن تكونَ مُؤمنًا بالله، وتُرجع القُدرة له؟ وحتى مَن تسميهم شركاء، فهم يعبدون لأجل التقرُّب لله.
• نحن علاقتنا بالله أسهلُ، ونؤمن بأنه قريب معنا في كُلِّ زمان، ويرانا في كل مكان، فهذا يَجعل تعامُلك مع إلهك أسهلَ، فلا نَجعل بيننا وبينه واسطة؛ لأننا نؤمن بقُربه وبسَماعه لنا، وبعونه لكل مَنِ استعان به، فأنت لِمَ تستسهل وجودَ الشركاء وكأنك تأتي إلى مهندس عبقري صَمَّم بناءً بأبهى صورة، ولَمَّا أردت تكريمه، شكرتَه وشكرت أناسًا لم يشتركوا معه في تصميم أيِّ شيء، فكم تكون بهذا بخستَ حَقَّه!
وكذلك الله - وله المثل الأعلى - فهو خلق السمواتِ والأرضَ وما فيهن، وكذلك خلقك في بطنِ أُمِّك، وحفظك في كل لح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://jana.canadaboard.net
 
القلادة .!!(2)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» القلادة.!!3
» القلادة.!!4
» القلادة.!!5
» القلادة.!!
» القلادة.!! (1)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الأسرة العربية لصيد الفوائد :: قصص :: ركن القصص لأخد العبرة والإستفاذة-
انتقل الى:  
مواقع صديقة
الأسرة الشامل | صور و خلفيات – قنوات فضائية