بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم
• أَخْرَجَ ابنُ عَسَاكِرَ عَنْ عائشَةَ عَنِ النبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) قَالَ:
(إنَّ الشيطَانَ يَفْرُقُ مِنْ عُمَرَ)
وأَوْرَدَهُ السيوطيُّ في تاريخِ الخُلَفَاء/ 118.
ومِنَ المَعْلومِ أنَّ الشيطانَ لا يَفْرِقُ مِنَ المؤمِنِ، بَلْ الأَمْرُ بالعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ مَا تَجِدُ الشياطينُ مؤمِنَاً حَتَّى تُسَارِعَ إليه لإيذائِهِ أو إغراءِهِ أو إيقاعِهِ في المَعَاصي.. الخ. ولا نَعْلَمُ شَيْطَانَاً يَخافُ مِنَ الإنسانِ إلاَّ إذا كَانَ ذَلِكَ الإنسانُ أعلى دَرَجَةً مِنْهُ في الشَّيْطَنَةِ وَهْوَ مَا يُفَسِّرُهُ الحَديثُ الآتي.
• أَخْرَجَ الترمذيُّ عَنْ عائشَةَ عَنِ النبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) قَالَ:
(إنِّي لَأَنْظُرُ إلى شَيَاطينِ الجِنِّ والإنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ)
وَهَذا غَيْرُ مَعقولٍ إلاَّ إذا كَانَ هو زعيمُهُم، لأنَّهُمْ لَمْ يَفِرُّوا مِنَ الأوليَاءِ، ولا مِنَ الأنبياءِ عَلَيْهِم السَّلام. فقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبَاً رَسولَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم):
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36) سورة فصلت
وَقَالَ الوليُّ الَّذي مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام:
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (63) سورة الكهف
وَفَعَلَ مُوسَى فِعْلاً نَسَبَهُ إلى الشَّيطانِ حِينَمَا حَاوَلَ قَتْلَ الفرعونيِّ، فَقَالَ:
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذا مِن شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}
(15) سورة القصص
وتَكَالَبَ الشَّيطانُ والأبَالسَةُ عَلَى سَيِّدِنا أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى قَالَ شاكياً:
{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}
(41) سورة ص
ولا يَفِرُّ الشَّيطَانُ إلاَّ مِنْ سَيِّدِهِ ورَئيسِهِ كَمَا يَفِرُّ النَّاسُ مِنْ جَبَّارٍ مِنْ جِنْسِهِم ويَفَسِّرُهُ الحَديثُ الآتي.
• أَخْرَجَ السيوطيُّ في الخُلَفَاءِ، والشيخانِ عَن سَعْدٍ بنَ أَبي وقَّاصٍ عَنِ النبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) قَالَ:
(يَا بْنَ الخَطَّابِ والذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيطَانُ سَالِكَاً فَجَّاً قط إلاَّ سَلَكَ فَجَّاً غَيْرَ فَجِّكَ) ـ تاريخ الخلفاء/ 117
أَقولُ: مَضْمونُهُ واضِحٌ. فالشَّياطينُ تَجْتَمِعُ وتَتَعَاوَنُ عَلَى المُؤْمِنِ أو القَومِ لإضْلالِهِم. فإذا سَلَكَ عُمَرُ واديَاً أو فَجَّاً اكْتَفَتِ الشياطينُ بِهِ وحْدِهِ في هَذا الفَجِّ فَيَسْلِكونَ فَجَّاً آخراً. ومُحَالٌ أنْ يَكُونَ المَعْنَى غيْرَ هَذا، إِذْ سيكونُ عُمَرُ أفْضَلُ مِنْ كُلِّ الرُّسُلِ والأنبياءِ، وَهْوَ مُحَالٌ.
فَلا داعِيَ لِرَفْضِ هَذِهِ النصوصِ الشريفَةِ المُقَدَّسَةِ مِنْ قِبَلِ الشِّيعَةِ والزَّعْمِ بِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ. فهذِهِ دَعَاوى لَيْسَتْ مِنَ العِلْمِ في شيءٍ، بَلْ هِيَ نُصوصٌ صَحِيحَةٌ وصَريحُةٌ في المَضْمونِ.
وَلِذَلِكَ يَمْكِنُكَ تفسيرُ أحاديثِهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) الأُخْرَى في عُمَرَ بِنَاءاً عَلَى ذَلِكَ مِثْلِ:
(مَا رَأى الشَّيطَانُ عمر إلاّ خرّ ساجداً)
(مَا رآك الشيطانُ يا عُمَرُ إلاّ خَرَّ لِوَجْهِهِ)
(مَا رَأيتُ الشَّيْطَانَ لاقَى عُمَرَ إلاَّ وخَرَّ لأستِهِ)
أَخْرَجَهَا جَمْعٌ مِنَ المُحَدِّثين في فَضَائِلِ عُمَرَ، وَهْيَ صَحيحَةٌ كُلُّها، لأنَّهُ زَعيمُ الشَّيَاطِينِ.
وَهَذِهِ هِيَ الجَفْرَةُ بَيْنَ رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) والمُؤمنينَ، فقَدْ كَشَفْنَاهَا لَكَ فافْهَمْ فقَدْ أَزِفَتِ الآزِفَةُ واقْتَرَبَ الوَعْدُ.
• وَمِنْهَا قولُهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم):
(إنَّ الشَّيْطَانُ لَمْ يَلْقَ عُمَرَ مُنْذُ أَسْلَمَ إلاَّ خَرَّ لِوَجْهِهِ)
أَقُولُ: فِيهِ مَعْنَىً عَمِيقٌ وَهْوَ أَنَّهُ زَعيمُ الشَّيَاطِينِ. ودخولُهُ في الإسْلامِ هُوَ الغَايَةُ والمَأمولُ الَّذي رَسَمَ عَلَيْهِ إبليسُ زعيمُ شياطينِ الجَّانِ، وحَقَّقَ جُزْءَاً مِنْ غايتِهِ في إِبْطَاءِ تَحَقُّقِ الوَعْدِ الإلهيِّ الَّذي هُوَ مُنْتَهَى أَجَلِهِ حَيْثُ يُعَذَّبُ بِمُجَرَّدِ حصولِ الوَعْدِ. ودُخولُ عُمَرَ للإسْلامِ أَعْطَاهُ فُرْصَةً أَطْوَلَ للخَلاصِ مِنَ العَذابِ.
وَهَذا يُفَسِّرُ الحادِثَ الغَريبَ الَّذي رَوَاهُ كُلُّ الحُفَّاظِ وأَشْكَلَ تَفْسيرُهُ عَلَى "العُلَمَاءِ"، وَهْوَ قَتْلُ الشَّيْطَانِ أو إبليسَ الَّذي تَمَثَّلَ في صُورَةِ عَابِدٍ أَعْجَبَ الصَّحَابَةُ بِعِبَادَتِهِ، وأَخْبَروا النبيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم) بِهِ، فَأَمَرَ أنْ يَنْتَدِبَ لَهُ رَجُلٌ فَيَقْتِلُهُ. فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: (أَنَا لَهُ). فَذَهَبَ وَرَجَعَ وَقَالَ: (كَرِهْتُ أنْ أَقْتلَهُ وَهْوَ سَاجِدٌ). ثُمَّ ذَهَبَ عُمَرُ وَرَجَعَ وَلَمْ يَقْتُلِ الرَّجُلَ فجَاءَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ لَهُ النبيٌّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم): (هَذا لَهُ إنْ وَجَدَهُ)، فَلَمَّا ذَهَبَ إليهِ مُخْتَرِطَاً سيفَهُ مُسْرِعَاً نَحْوَهُ لَمْ يَجِدْهُ. فَقَالَ النَبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم): (لَو قَتَلْتِموهُ مَا اخْتَلَفَ مِنْ أُمَّتِي رَجُلانِ).
ظَنَّ بَعْضُهُم أَنَّهُ ذو الثَدْيَةِ المَقتولِ في النهروانِ مَعَ الخَوَارِج فيما بَعْدُ حَيْثُ أَخْرَجَ الحَدِيثَ أَبو يعلى في مُسْنَدِهِ مِنْ تَرْجُمَةِ ذي الثدية مِنَ الإصَابَةِ. وذَكَرَهُ أحْمَدُ بنَ حنبل في ج3/ 15 مِنَ المُسْنَدِ.
وبالطَبْعِ لا يَمْكُنُ أنْ يَقومَ رَجُلٌ واحِدٌ بإضلالِ كُلِّ الأمَّةِ إلاَّ أنْ يَكُونَ قَائِداً للشَيَاطينِ كُلِّهِم. لَكِنَّ عَدَمَ الاختِلافِ بَعْدَ قَتْلِهِ لَيْسَ بِسَبَبِ غِيَابِهِ بَعْدَ القَتْلِ كَمَا قَدْ يُفْهَمُ، وَإنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بالرَّجُلينِ أَبي بَكْرٍ وعُمَر. فَلَو قَتَلا مِثْلَ هَذا الشَّيْطَانِ لَكَانَا مُؤْمِنينِ وَمِنْ أَهْلِ الإسْلامِ، وإذا كَانَا كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِذَنْ مُشْرِكٌ أو كَافِرٌ في كُلِّ الدُّنْيَا، لأنَّهُمَا الأعْلَى دَرَجَةً في الكُفْرِ فَهْوَ مبنيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ قَضِيَّةِ الحُدودِ في المَنْطِقِ كَمَا تَقولُ عَنْ رَجُلٍ مُلْحِدٍ شَديدِ العنَادِ: (لَو آمَنَ هَذا لآمَنَ كُلُّ النَّاسِ كَأَنَّكَ تُشيرُ إلى أنَّهُم دونهُ في العِنَادِ.
أمَّا أَنْتَ فَتُبَالِغُ لأنَّكَ لا تَعْرِفُ كُلَّ الخَلْقِ، وَأمَّا رَسولُ اللهِ فَهْوَ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى وكلامُهُ حَقٌّ. وَلَيْسَ المَفُهومُ مِنْ كلامِهِ إلاَّ هَذا المَعْنَى. وَهْوَ أَنَّهُ لَو كَانَ ثَمَّةُ احتمالٍ في إيمانِ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ لآمَنَ النَّاسُ كلُّهُم وَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ أُمَّتِهِ رَجُلانِ لأنَّهُمَا أَكْفَرُ الخَلْقِ.
واعْلَمْ أَنِّيَ كَشَفْتُ لَكَ عَنْ سِرٍّ دَفِينٍ وعَظِيمٍ كَتَمَهُ أهْلُهُ عَنْ غَيْرِ أهْلِهِ قُرَابَةَ أرْبَعَةَ عَشَرَ قرْنَاً. فَلا يفوتُكَ تطبيقُ المَعْنَى والبَحْثُ في المَرْويَّاتِ عَلَى كُلِّ مَوردٍ قرآنيٍّ وَرَدَ فِيهِ ذِكْرُ الشَّيْطَانِ، فَإنَّهُ مُرْتَبِطٌ بالرَّجُلينِ لا بِسِوَاهُمَا وسَتَنْكَشِفُ لَكَ الأسْرَارُ.
وإنَّ هَذا الأَمْرَ يُفَسِّرُ لَكَ مُعْضَلاتِ المَسَائِلِ ومُشْكِلاتِ الحَديثِ. ولَكُمْ هَذا المِثَالُ:
• أَوْرَدَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلام كَلاماً اسْتَشْهَدوا بِهِ عَلَى حُسْنِ علاقَتِهِ ونَظْرَتِهِ لِعُمَرَ عِنْدَمَا مَاتَ عُمَرُ. فقَدْ رَوُوا عَنْ جَابِرٍ: قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى عُمَر وَهْوَ مُسَجَّى فَقَالَ:
(رحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبُّ إليَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمَا في صَحِيفَتِهِ بَعْدَ صُحْبَةِ النَبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ مِنْ هَذا المُسَجَّى)
ذَكَرَهُ السيوطيُّ في التاريخِ وَقَالَ: (أَخْرَجَهُ الحاكِمُ)1. والمَعْنَى واضِحٌ بَعْدَ تِلْكَ الإشاراتِ: فَرَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ لا لَكَ لأنَّ الإمامَةَ والنبوَّةَ هِيَ رَحْمَةُ اللهِ، والكِتَابُ هُوَ رَحْمَةُ اللهِ. قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء
وَهَذِهِ (عَلَيْكَ) أي تَبِعَتُهَا عَلَيْكَ.
أي واللهِ.. رَحْمَةُ اللهِ لَهِيَ عَلَيْهِ2!
ثُمَّ هُوَ عَلَيْهِ السَّلام يُريدُ أنْ يَلْقَى اللهَ بِصَحيفَتِهِ ويُقَدِّمُهَا للشَّكوى عَلَيْهِ. وَهَذا مِنْ شؤونه عَلَيْهِ السَّلام لأنَّهُ هُوَ الإمامُ والشهيدُ عَلَى الأُمَّةِ بَعْدَ رسولِهَا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم). وَكَمَا رَأيْنَا فَهْوَ القَسيمُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ.
فالصَحِيفَةُ تَتَضَمَّنُ ظُلاماتِهِ الخَاصَّةِ وظُلاماتِ الخَلْقِ عامَّةً، لأنَّها سَوفَ تَتَتَابَعُ عَنْ طَريقِ الحِسَابِ، فَلِذَلِكَ لا شَيءَ أَحَبُّ عِنْدَهُ مِنْ هَذا اللِّقَاءِ.
وَهَذا يُؤَيِّدُهُ أَيْضَاً بِنَفسِ التَفْسيرِ مِنْ (فَضَائِلِ عُمَرَ) قَولُ النَبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم):
(مَا في السَّمَاءِ مَلِكٌ إلاَّ وَهْوَ يَوَقِّرُ عُمَرَ ولا في الأَرْضِ شَيْطَانٌ إلاَّ وَهْوَ يَفْرُقُ مِنْ عُمَرَ)
أَخْرَجَهُ ابنُ عساكِرٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ ونَقَلْتُهُ عَن السيوطي في تاريخِهِ/ 118.
والوقْرُ هُوَ الحِمْلُ ويوقِّرُ: يُحَمِّلُ، والمَفعولُ مَتْروكٌ وَهْوَ مِنَ الأفْعَالِ الَّتي تأتي لازِمَةً أو مُتَعَدِّيَةً. فالملائِكَةُ في السَّمَاءِ تُحَمِّلُهُ تَبِعَةَ مَا يَحْصِلُ مِنْ فَسَادٍ في الأَرْضِ.. ويوقِّرُ: يُعَظِّمُ أمْرَهُ. ولا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ تَوقيرِ الملائِكَةِ وفَرَقِ الشَّيَاطِين إلاَّ بِهَذا المَعْنَى.
وأَخْرَجَ الحُفَّاظُ عَن مُجَاهِدٍ قَالَ:
(كُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ مُصَفَّدَةً في إِمَارَةِ عُمَرٍ)
أَخْرَجَهُ السيوطيُّ في التاريخ عَنِ ابنِ عساكِرٍ/ 121.
ولا مَعْنَى لِهَذا إلاَّ أنْ يَكُونُوا قَدْ اكْتَفُوا بِعَمَلِهِ فَبَقوا لا شُغْلَ لَهُم.
وأَخْرَجَ سالمٌ بنُ عبد الله قَالَ:
أَبْطَأَ خَبَرُ عُمَرٍ عَلَى ابنِ موسى فأَتَى امْرَأةً في بَطْنِهَا شيطانٌ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: (حَتَّى يَجيئُني شَيطاني)، فَجَاءَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: (تَرَكْتُهُ مُؤْتَزِرَاً بِكِسَاءٍ يهنأ إبلَ الصدقة وَذَاكَ رَجُلٌ لا يَرَاهُ الشَّيْطَانُ إلاَّ خَرَّ لِمَنْخِريهِ) ـ تاريخ الخلفاء/ 118.
وبالجُمْلَةِ فإنَّ المَكْرَ والكَيْدَ هُمَا عَمَلُهُ حَيْثمَا جَاءَ في القُرْآنِ. وَيَبْدوا أنَّ الصَّحَابَةَ والتَّابِعينَ كانوا يدرِكونَ هَذِهِ المَسْأَلَةَ فنَقَلوهَا لَنَا بِصُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَهُنَاكَ عَشَرَاتُ الاتِّفاقَاتِ الأُخْرَى في مَنَامَاتِهِ وأحْلامِهِ ومُحَاورَاتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَمَعَ المُؤمنينَ تُثْبِتُ أَنَّهُ رئيسُ الشَّيَاطِينِ. ومِنَ المُحْتَمَل أنْ يَكُونَ إبليسُ نَفْسُهُ قَدْ يَحِلُّ بِهِ ويَتَلَبَّسُ فِيهِ فَيَحْصِلُ سُجودُ الشَّيَاطِينِ لَهُ. وإذا غَضَبَ في هَذا الحَالِ فَتَقَعُ دَاهِيَةٌ لا مُحَالَةَ وقَدْ عَلِمَ الأصْحَابُ ذَلِكَ وحَاولوا اسْتِعْمَالَ القُرْآنِ للخَلاص مِنْهُ. فقَدْ رَوى السيوطيُّ عَن بِلالٍ أَنَّهُ قَالَ لأَسْلَمَ:
(كَيفَ تَجِدونَ عُمَرَ؟)، قَالَ: (خَيْرٌ إلاَّ أَنَّهُ إذا غَضَبَ فَهْوَ أمْرٌ عَظِيمٌ)، فَقَالَ بِلالُ: (لَو كُنْتُ عِنْدَهُ إذا غَضَبَ قَرَأْتُ عَلَيْهِ القُرْآنَ)!! تاريخ الخلفاء/ 119
أَقُولُ: والقُرْآنُ يُسْتَخْدَمُ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ أو إسْكَاتِ حَرَكاتِهِ، وَلَمْ يُؤْثَرُ شيءٌ كهذا إلاَّ عَنْ عُمَرَ!.
ويَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ النصوصِ وغيرِهَا الكَثيرُ أنَّ جَمْعَاً مِنَ المؤمنينَ مِنَ الصَّحَابَةِ ومِمَنْ هُمْ بَعْدُهُم مِنَ التابعينَ كانوا يَدْرِكونَ جيِّداً أنَّ عُمَرَ شَيْطَانٌ إنْسِيٌّ، وأنَّهُ زَعيمُ الشَّيَاطِينِ في العَالَمِ وفْقَ هَذِهِ التَصْريحَاتِ النَبَوِيَّةِ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ عَن الصَّادِقِينَ عَلَيْهِم السَّلام في أَكْثَرِ مِنْ مَوضِعٍ:
(إذا قَرَأْتَ القُرآنَ فَأَيُّمَا مَوْضِعٍ يَرِدُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فالمُرَادُ بِهِ الثاني)