القهر-السحر-الكذب.. ثلاثية أهل الباطل في مواجهة أهل الحق
كتبه/ محمد إسماعيل أبو جميل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن هناك ثلاثة وسائل إذا استخدمها الخصم؛ دل على ضعفه وإفلاسه، بل ويُبشر بانهزامه، ووقوع ما يحذر وإتيانه مِن حيث لم يحتسب..
وهذه الثلاث هي:
1- محاولة القهر بالقوة.
2- السحر.
3- الكذب.
وإن الناظر للصراع بيْن الحق والباطل؛ ليرى ذلك واضحًا جليًا.
أولاً: محاولة القهر بالقوة:
من ذلك ما كان مِن بطش فرعون بموسى وقومه منذ أن أُخبر بأنه سيولد من بني إسرائيل ذكر يكون هلاك ملكه على يديه (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49)، ثم مِن بعد مجيء موسى -عليه السلام- (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ . قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:127-129).
ففي الحالين استخدم القوة والبطش؛ لعدم قدرته على الإحاطة بالخطر الذي يترقبه مِن ظهور هذا الغلام مرة، ومِن ظهور دعوة الحق التي لا يقف خطرها عند عبادة بني إسرائيل لربهم -عز وجل- فهم طوال تواجدهم بمصر، وهم أحفاد يعقوب -عليه السلام- معلوم دينهم، وهو عبادة الله دون ما سواه، لكن الخطر الجديد أن تصيب هذه الدعوة أبناء ملأ فرعون؛ فيذروا عبادته، وكذلك في خروج بني إسرائيل مِن تحت سلطانه.
وبالطبع ليس عنده مِن الحجة والفكر ما يواجه دعوة الحق؛ فإن أي باطل أضعف مِن أن يزعم قدرته على أن يواري شمس الحق أو يطفئ نورها (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8)، وأقصى ما يقدر عليه فكما يفعل السحاب إذا حجب الشمس ثواني أو دقائق وسرعان ما ينقشع الغيم، ويظهر للناس نور الحق.
فلما كان مفلسًا مِن ذلك فما وجد إلا البطش والتنكيل.. ولما بلغ تجبره ذروته، وأراد استئصال بني إسرائيل جميعهم، واستعظم قوته، وظن قدرته على ذلك (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:53-68).
وهكذا حال أعداء الله -عز وجل- لما يستشعروا الخطر مِن أهل الإيمان، وأن دعوتهم ستكون سببًا في زوالهم؛ إذ إن دعوة الإيمان ليست ذاتية، بل متعدية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.. ) (آل عمران:110)، "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"؛ فتهدف لإزالة كل مَن يصد الناس عن الله.. فإذا استشعروا ذلك الخطر، وبالطبع ما كان عندهم مِن برهان ولا حجة يواجهونهم به -وأنى لهم ذلك-؛ لجأوا للسجن والتعذيب، والبطش والتنكيل.. وهذا وإن طال زمنه إذا تحلى أهل الإيمان بالصبر والإيمان؛ وُلد من رحم ذلك التضييق فرج واسع -بإذن الله جل وعلا- (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) (المائدة:52)، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).
وكذا في قصة "غلام الأخدود"، لما أراد الملك البطش به؛ لأنه يستخرج رعيته مِن سلطان عبادته، ولا سبيل له لمواجهة هذه الدعوة بالبيان والإنصاف والحجة؛ أتاه ما كان يحذر، وآمن الناس.
وكذلك في "العهد المكي" ما زاد التعذيب والتنكيل الصحابة إلا ثباتًا وإيمانًا حتى أذن الله لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا، وفُتحت لهم الدنيا من بعد ذلك.
ولقد صبر أهل الحق في هذا الزمان على البطش والتنكيل، ومحاولة القهر بالقوة حتى أتاهم فرج مِن حيث لا يعلمون.. نسأل الله أن يتم نعمته وفرجه على دينه وعلى أهله.
ثانيًا: السحر:
وهذا المثل واضح جلي أيضًا في قصة موسى وسحرة فرعون، فكعادته (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) (طه:60)، بعد أن نصحه ملأه: (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) (الأعراف:111-112).
وقال السحرة مستعلين بجهلهم وسوء ظنهم، متناسين ربهم: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طه:64)؛ ولأنه كانت لهم السلطة الإعلامية بحكم قربهم مِن فرعون: (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (الأعراف:114)، كانوا هم أول من ألقى، ونسوا أن (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه:69)، و(إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81)؛ فأتي من حيث لم يحتسب (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ . وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف:118-122).
واليوم يطل علينا سحر مِن نوع آخر غير سحر سحرة فرعون، بل قد يكون أشد فتكًا، ولكن هيهات هيهات: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)؛ إنه سحر البيان: (إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) (رواه البخاري)، إنه سحر الإعلام: فضائيات، وصحف ومجلات، ومواقع على شبكة الإنترنت.. تُزيِّف الباطل وتلبسه ثوب الحق.. وكأني بهم قالوا قولتهم: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)!
يريدون سحر عقول وقلوب الناس حتى لا تَقبل دعوة الحق، ولكن -بفضل الله- القلوب مائلة بفطرتها إلى نور ربها فما أن يخرج أهل الحق ويلقون على مسامع الناس حجج النور وبينات الهدى فسرعان ما تلقف هذه البينات حبال وعصى هؤلاء السحرة الجدد.. وسبحان الله! "إن الحق واضح أبلج، والباطل لجلج"، فلا يكاد الباطل أن يصمد أمام حجة الحق.. هذا لو سمع الناس مِن أهل الحق كما سمعوا، وكما أعطوا آذانهم لأهل السحر.. ومَن أراد الحق فعلاً سعى إليه، وبحث عنه بإخلاص واجتهاد.
وكما أن استخدام فرعون السحر يدل على ضعف رصيد قدرته على مواجهة الحق الحجة بالحجة، فتوهم أن الحل ـإذن ـ في سحر أعين الناس؛ لئلا تنصرف إلى برهان الحق.. وظن أن قوة الحق التي مع موسى ـ عليه السلام ـ مِن قبيل وهم سحره، فطلب المناظرة سحرًا بسحر.. وما علم أنها مواجهة وهم بحق، وضعف بقوة، وظلمة بنور.. فسرعان ما بان عوره للناس، وكان سحرته أول مَن اهتدى بنور الهدى، فأتي مِن حيث ظن النصر والغلبة.
ولذا.. فليبشر أهل الإيمان.. طالما اجتهدوا واستفرغوا الوسع في عرض منهجهم بلا تقصير وبلا تنازل، ولا مداهنة.. إن كيد سحرة زماننا سيمضي كما مضى سحر فرعون وأمثاله، ولا يهتموا بتشغيب أهل الباطل -وهو نوع مِن سحرهم- والذي لا يُحسنون سواه إذا ما كانت المناظرة علانية -على الهواء مباشرة- أو وجهًا لوجه؛ فإذا ألقموا حجرًا بحجة دامغة من حجج أهل الحق تفضح عورهم؛ فليس عندهم إلا قطع الاتصال -صدفة أو لعطل فني- أو مقاطعة المتحدث وبتر كلامه للدخول في منحى آخر يشتت المشاهد عن هذا النقطة التي يتحدث فيها!
أو هذا التشغيب الذي يشبه تمامًا فعل فرعون في مناظرة موسى -عليه السلام- له إذ لا يستطيع الرد على حجته (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين . َقَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِين . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونََ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ . قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ . وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين . َقَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ . يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (الشعراء:23-35).
وبهذه العبارات التي لا تتناسق مع الإجابة يظن قائلها مع سرعة التفاته لمحاور آخر، ومع كونه هو الذي يدير الحوار وربما مع علو صوته يظن أن كلمات خصمه -صاحب الحق- ستذوب، وأن المستمع كأنه لم يسمعها؛ لأن مَن يدير الحوار لا يعقب عليها أو يعطيها نوع اهتمام كما يعظم ويفخم كل فرية تفتري على أهل الحق، ولكن -بفضل الله عز وجل- فإن كلمة واحدة من براهين أهل الإيمان في بحر هذا الركام تظهر وكأنها نجم، بل إن شئت قلت: شمس في سماء ظلام سحرهم، أو كسطر لؤلؤ أبيض في صفحة سواد مكرهم، يراها كل مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أو كان منصفًا حقًا أو مخلصًا في بحثه عن الحق.
الثالث: الكذب:
وهذا ما يدل على الهزال التام، ونفاد الرصيد والفشل الذريع، فلما لم تفلح قوى البطش ولا السحر، فما وجدوا أمامهم سوى الكذب الصراح؟! وهذا -بفضل الله- أهون أسلحتهم -وإن شاء الله آخرها- طالما جدَّ أهل الإيمان وثبتوا على الحق، واستفرغوا الوسع والقدرة في البذل والعطاء، ويكفينا لصد ذلك ومواجهته حسن بيان الحق للناس.. وكل عاقل بصير سيرى عور الكذب وزور هذا البهتان ـ إن شاء الله له الهدايةـ (إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) (الأعراف:155).
ولقد رمي النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبًا وزورًا بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر، والكذب -بل وعامة الأنبياء كذلك-، وحذر المشركون الناس مِن أن يصبهم مِن سحره، وما أن يسمع المرء كلامه -صلى الله عليه وسلم- حتى يتبين له صدقه -صلى الله عليه وسلم-، وسرعان ما ينجلي أمامه الحق، بل ولربما ندم أن أعطى أذنه لافتراءات المدعين.
وإليك هذا المثال:
طفيل بن عمرو الدوسي لما قدِم مكة في السنة الحادية عشر من النبوة؛ استقبله أهل مكة وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه ، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا.
يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا -أي قطنا-؛ فرقـًا من أن يبلغني شيء من قوله، قال : فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبي الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسنًا؛ قبلته، وإن كان قبيحًا؛ تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن. فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومي، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، فدعا..
فسبحان الله! إن منهج أهل الضلال هو هو.. وإن اختلف الزمان والمكان، والله مِن ورائهم محيط
ولقد رُميت الدعوة بالزور والكذب الصراح، لا نقول أنها بشبهة حقيقية عند البعض، بل فعلاً محض اختلاق واضح بيِّن -كذب له قرون-؛ نتحدى أي مدعي أن يأتي بتصريح أو بيان عن الدعوة أو أحد رموزها فيه ما قد يُساء فهمه، فيفهم على نحو ما يكذبون به علينا.
فإننا لا نتحدث عمن ابتدأ الفرية، ولكن عن هؤلاء الذين نقلوها وأصدروا الحكم، وشنوا الحملات بموجبها على الإسلاميين ـ لا سيما السلفيين -الذين فوجئوا بهم جموعًا هائلة لا يدرون مِن أين خرجت لهم؟ وما كانوا يتوقعونها، وأنى لهم (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30)-.
فهؤلاء إما أنهم يعلمون أنها كذب وافتراء، أو أنهم لم يتثبتوا ونقلوا بلا تبين، ولا حتى تحرير للواقعة مِن مصادر رسمية: كمحاضر الشرطة أو نحوها.. أو نقل الكلام عن جهة أو مصدر مسئول يرجع إليه الناس؛ إذا أرادوا التثبت!
وكلا الاحتمالين يمثل اتهام لهم: إما بالكذب الصريح، أو بأن وهم الإعلام والصحافة المحايدة أو أن أساس وشرف المهنة مبني علي بيان الحقائق للناس، والحياد في نقل الطرف والطرف الآخر أن كل ذلك خدعة كبيرة! فالحمد لله الذي كشف عورهم وزورهم.
والأمر الذي يشغل البال أكثر ليس هؤلاء.. ولكن عوام الناس "أقصد غير هؤلاء الإعلاميين ومن وراءهم، وغير المنتسبين للدعوة"، الذين عن قريب سينسون كذب هؤلاء ويسلمون آذانهم وقلوبهم مرة أخرى لهؤلاء الدجاجلة، تمامًا كما أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن الساحر الذي يأتيه مسترقو السمع بكلمة حق فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق فيقولون: ألم تخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقًا للكلمة التي سُمعت من السماء، وبالطبع كلمة الحق التي عندهم ليست عن أهل الإيمان، بل عن أي نوع ظلم أو فساد مما يعج في بلادنا مما قد لا يختلف عليه اثنان أصلاً.
فهل يلدغ مؤمن مِن جحر مرتين؟!
وهؤلاء الدجاجلة؛ فإنا نذكرهم بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ؛ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وأما أبناء الدعوة: فأبشروا.. فما أفلح البطش والتنكيل، ولا السحر والتزييف، ولن يفلح كذلك الكذب والبهتان.
ولقد أوذي بذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام.. فنصرهم الله -عز وجل-، وإذا وجدتم أنفسكم تُرمون بنفس الأسلحة؛ فاثبتوا فإنكم -بفضل الله- على الحق.
أبشروا، واعملوا، وأمضوا حيث تؤمرون.
اصدعوا بكلمة الحق، وأوضحوا منهجكم.
وادعوا قومكم إلى الله.. ولا تملوا مِن قول: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) (الأحقاف:31).
وأبشروا بفتح قريب ـ وإن طال زمان صولة الباطل ـ.. فإنهم يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا.
وعزاؤكم أن هذا كله بقدر الله ومشيئته، وهو الحكيم الحميد، وهو: (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (البروج:8-9).
ولعل كل هذا يحدث وغيره؛ لتمتلئ قلوب المؤمنين غيرة على دين الله، وغيظًا على أعداء الله؛ فتستخرج الدعوات مِن تلك القلوب المحترقة المؤمنة، ولتعلم أن الله أغير منها على دينه، وأنه سميع لكلمات هؤلاء، بصير بأفعالهم، عليهم قدير، ومِن ورائهم محيط، (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
فاللهم امكر لنا ولا تمكر علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا عيك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك مِن القوم الكافرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.