نشرت صحيفة الحياة في عددها الصادر يوم السبت (Jun 16th 2012) خبرا يفيد فصل مركز تجاري في مكة سعوديات ستة التحقن بالعمل في المركز بوظيفة ـ”كاشيرات ” بناء على توجيهات أو “تهديدات ” من هيئة الأمر بالمعروف كما أفاد التقرير, وليست هذه السابقة الأولى التي يستمر فيها الجدل الأيديولوجي حول قيمة المرأة ومشاركتها الحياة العامة والسماح لها بالعمل في الداخل السعودي, ومع عدم نظامية تدخل الهيئة في اختصاصات وزارة العمل المخولة بالرقابة والتشريع فيما يخص قضايا العمل والعمال الإ أننا بحاجة إلى أن نبحث فيما وراء هذا التصرف الصادر عن الهيئة؛ الذي هو ممارسة سلوكية للخطاب الديني.
لم يزل الخطاب الديني يتراوح في ذات المفاهيم والمصطلحات التي تكونت مضامينها وفقًا لعصور الضعف في الفقه الإسلامي، التي قلّت فيها قيمة الإنسان أو انعدمت, وصودرت فيها حرياته وشاع فيها التقليد الفقهي، بالإضافة إلى تشكل تلك المفاهيم واختلاطها بكثير من العوائد والأعراف القبلية التي كانت تعد المرأة عاملًا ثانويا في الحياة وتأتي في مرتبة متأخرة عن الرجل, فالاختلاط بوصفه مفهوما حادثا مع كثرة تداوله وانتشاره في خطابات الإسلاميين إلا أنه ما يزال مصطلحا “فضفاضًا” يسهل على محدودي المعرفة استغلاله لخدمة أيديولوجياتهم المختلطة بالعادات والتقاليد المخالفة للشرع الكريم, فهل وجود المرأة في مكان عام يراها فيه الكل يمكن إدارجه في دائرة الإختلاط؟ إن النصوص الشرعية لم تأتِ بأكثر من الحديث عن منع الاختلاء بين الرجل والمرأة, لكن هذا المفهوم تطور بشكل كبير ليصل إلى تقسيم المجتمع والمطالبة بعزل المرأة عن الرجل حتى لو في مكان عام! وهذه ليست مصادفة في واقع الأمر, لكنها تداعيات تمت عبر حقب زمنية معينة وتوجه مقصود في مراحل أخرى من تاريخ الخطاب الديني.
فحين جاء الفكر الغربي بماديته ونظرته المادية للمرأة كان موقف الخطاب الديني – كردة فعل- على النقيض من ذلك, فبحجة الحفاظ على المرأة هُمِّشت واتهِمت بالإفساد أو الفساد, حتى وصل الأمر الآن إلى السماح للمرأة بالتسول والبيع بالـ”بسطات ” في ظل تعاليم الإسلام بدلا من العمل في مركز تجاري بحجة أنه معصيه لله! لم يكن موقف الخطاب الديني المحلي متزنًا في تعاطيه مع المرأة بل إنه اليوم يمثل صورة فريدة في ذلك التعاطي, فالسلفية الكويتية والمصرية والمغاربية تقدم خطابا تقدميا يحمل روح الإسلام في تعاطيه مع المرأة، فهي تشارك الرجل العمل والحياة والبناء, لكن واقعنا المحلي يتجه نحو بناء عزلة مكانية وفكرية بين المرأة والرجل, ويعلل الخطاب الديني ذلك بـ”درء المفاسد ” وهنا أتساءل أيضًا: لماذا تعمل هذه القاعدة الأصولية في نطاق المرأة فقط؟ أليس منعها من العمل والكسب الحلال مفسدة أكبر من ذلك؟ كم من امرأة تقوم على أسرتها وتنفق على بنيها فمن أين لها مقاومة غلاء الحياة اليوم؟
إن هذه الحادثة انعكاسٌ حقيقي للبعد عن جوهر الدين إلى شكله وقشوره، فإن الشرائع تابعة للمصالح كما يعبر الإمام الشاطبي في كتابه الأصولي العظيم “الموافقات”, أي إن القراءة الصحيحة للدين ينبغي أن تكون في توافق تام مع المصالح وتأكديها وهذا مادفع الإمام ابن القيم للقول “إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان, فثم شرع الله ودينه”, فمنع المرأة من العمل في مكان عام لا تثبت فيه صورة الخلوة الواردة في النص الشرعي مخالفة لروح الشريعة وظلم للمرأة ودفع لها للتسول لمواجهة الحياة.
المرأة ليست بحاجة إلى خطابٍ ذكوري أبوي يمارس عليها وصايته بقدر حاجتها إلى خطاب يقدّم الثقة فيها قبل إساءة الظن, فإذا عجز الخطاب الديني عن ذلك فلا أقل من أن يقدم لها البديل عن الـ”لا” والـ”حرام” التي يقابل بها المرأة في كثير من قضاياها, فالشريعة -يا سادة- ليست بهذه السلبية أمام مشاكل الناس وحاجاتهم, وبدلا عن الراحة الفكرية والجسدية وتحريم كل شئ فإن الخطاب الديني عليه مسؤولية البحث والقراءة العميقة لروح التشريع للبحث عن عشرات البدائل قبل أن يحرم على المرأة عملها “كاشير”.