أبعاد للكون
أبعاد غير مرئية للكون(*)
قد يكون الكون المرئي موجودًا فوق غشاء عائم في نطاق
فضاء ذي أبعاد أكثر عددًا. وقد تساعد الأبعاد الإضافية
على توحيد قوى الطبيعة، وقد تتضمن أكوانًا متوازية.
< N. أركاني-حامد> ـ <S. ديموپولوس> ـ < G. دڤالي>
تحكي القصة المأثورة "الأرض المسطحة (فلاتلاند): قصة رومانسية متعددة الأبعاد(1) ، وهي القصة التي كتبها < A.E. آبوت> Abbott عام 1884، مغامرات شخص يحمل اسم < A. سكوير>(2) يعيش في عالمٍ ذي بعدين تسكنه أشكال هندسية متحركة-مثلثات، مربعات، مخمسات، وما إلى ذلك. وقبيل نهاية القصة في أول أيام عام 2000، يمر ب"فلاتلاند" مخلوق كروي آت من فضاء ثلاثي الأبعاد "سبيسلاند" Spaceland يحمل سكوير من منطقته المسطحة ليريه الطبيعة الحقيقية الثلاثية الأبعاد للعالم الأكبر. وعندما يأخذ سكوير في استيعاب ما توضحه الكرة له، يبدأ بالتفكير بأن سبيسلاند نفسه قد يكون موجودًا في فضاء جزئي من كونٍ أكبر ذي أربعة أبعاد.
ومن المثير حقًّا أن الفيزيائيين بدءوا في عامي 1998 و1999 بدراسة جادّة لفكرة مشابهة جدًّا: وهي أن كل ما نراه في عالمنا محدد ب"غشاء" membrane ثلاثي الأبعاد موجود في كون أكثر أبعادًا. ولكن، خلافًا ل"سكوير" الذي كان عليه الاعتماد على تدخل إلهي من سبيسلاند عونًا لأفكاره الثاقبة، فإن الفيزيائيين قد يتمكنون قريبًا من الكشف عن وجود أبعاد إضافية للعالم الواقعي قد تمتد إلى مسافة مليمتر كامل. وتجرى الآن بالفعل تجارب للنظر في تأثير الأبعاد الإضافية في قوة الثقالة gravity. فإذا كانت النظرية صحيحة، فإن التجارب التي ستجرى قريبًا في أوروبا على الجسيمات ذات الطاقة العالية قد تكشف عن آليات غير اعتيادية تتناول الثقالة الكمومية quantum gravity، مثل نشأة الثقوب السوداء الميكروية micro العابرة. وليست النظرية مجرد قصة رومانسية ذات أبعاد عديدة، بل إنها مبنية على بعضٍ من أحدث التطورات في نظرية الأوتار string theory، وسوف تقود إلى الحلول التي طال انتظارها لبعض المسائل المحيِّرة في فيزياء الجسيمات وفي الكوسمولوجيا (علم الكون).
إن المبادئ الغريبة التي تتضمنها نظرية الأوتار وتعدُّد الأبعاد تنشأ عن محاولات فهم أكثر القوى شيوعًا ألا وهي قوة الثقالة؛ فبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على طرح نيوتن لقانونه في التثاقل (الجاذبية) gravitation مازالت الفيزياء عاجزة عن تفسير ضعف قوة الثقالة الشديد مقارنة بالقوى الأخرى. إن ضعف قوة الثقالة أمر مثير: فالقوة التي يرفع بها مغنطيس صغير مسمارًا من الأرض تتغلب على الجذب التثاقلي gravitational لكتلة الأرض بأكملها. كذلك فإن قوة التجاذب بين إلكترونين أضعف بنحو 1043 مرة من القوة الكهربائية الطاردة المتبادلة بينهما. وتبدو الثقالة مهمة بالنسبة إلينا ـ فهي تثبت أقدامنا على الأرض وتحافظ على دوران الأرض حول الشمس ـ لكن ذلك فقط لأن تلك التجمعات الكبيرة من المادة هي محايدة كهربائيًّا، الأمر الذي يجعل القوى الكهربائية صغيرة إلى حد التلاشي ويترك الثقالة، على ضعفها، القوة الملحوظة الوحيدة.
ضعف الثقالة المستعصي على التفسير
إن كتلة الإلكترونات يجب أن تتضاعف نحو 1022 مرة لكي تتساوى القوتان الكهربائية والتثاقلية المتبادلتان بين إلكترونين منها. كما يلزم لإنتاج جسيم ثقيل الوزن كهذا طاقة تعادل 1019 گيگاإلكترون ڤلط (GeV)، وهي طاقة تعرف باسم طاقة پلانك Planck energy. وثمة طول يتعلق بهذه الطاقة يسمى طول پلانك، وهو صغير للغاية ويساوي35-10 متر. وللمقارنة، نذكر أن البروتون، وهو نواة ذرة الهدروجين، أكبر من ذلك بنحو 1019 مرة، وكتلته تساوي 1GeV تقريبًا. إن أقوى المسرّعات accelerators قدرة تعجز عن الوصول إلى قيمتي پلانك للطول والطاقة. وحتى مصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider الموجود في المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN سيتعامل مع أطوال لا تقل عن 19-10 متر فقط، وذلك عند بدء تشغيله بعد نحو خمس سنوات من الآن(3). وبالنظر إلى أن شدة الثقالة تصبح قابلة للمقارنة بالقوة الكهرمغنطيسية والقوى الأخرى عند سُلَّم پلانك، فقد اعتاد الفيزيائيون افتراض أن النظرية التي توحِّد الثقالة مع التفاعلات الأخرى لا تكشف عن نفسها إلا في نطاق الطاقات المشار إليها. ومن ثم، فسوف يتعذر تبعًا لهذه الفرضية التحقق مباشرة بالتجربة من طبيعة النظرية النهائية لتوحيد القوى في المستقبل المنظور(4).
إن أقوى المسرّعات حاليا تسبر مجال الطاقة فيما بين 100 و 1000 گيگا إلكترون [تيرا إلكترون ڤلط أو TeV واحد]. وضمن هذا المجال، شهد القائمون بالتجارب اتحاد القوة الكهرمغنطيسية والتفاعل الضعيف (قوة تنشأ بين الجسيمات دون الذرية تسبب بعض أنواع التفكك الإشعاعي). ويمكن أن ندرك الضعف الشديد للثقالة إذا فهمنا العامل 1016 الذي يفصل بين السلم الكهربائي الضعيف (الكهر- ضعيف) electroweak scale وسلم پلانك.
ومن المؤسف أن النظرية الناجحة للغاية التي وجدها الفيزيائيون، والتي تسمى النموذج المعياري Standard Model لا تستطيع تفسير حجم هذه الفجوة الهائلة؛ لأنها ضُبِطت بدقة لكي تتوافق مع السلم الكهر- ضعيف المشاهَد. لكن من دواعي السرور أن هذا الضبط ـ إضافة إلى نحو 16 عملية ضبط أخرى ـ يستخدم مرة واحدة فقط ليتفق مع آلاف مؤلفة من المشاهدات. غير أن علينا أن نضبط النظرية الأساسية بحساسية بالغة بحيث نحصل على دقة تبلغ نحو جزء واحد من 1032؛ وإلا فإن عدم الاستقرار الناشئ عن التأثيرات الكمومية قد يدفع السلم الكهر- ضعيف ليعود إلى سلم پلانك. إن وجود مثل هذا التوازن الدقيق في النظرية شبيه بمشاهدة قلم رصاص يستقر تمامًا على منضدة وهو منكس رأسًا على عقب؛ فمع أن هذه الحالة ليست مستحيلة الحدوث، إلا أنها غير مستقرة إلى حد كبير وسنستغرب جدًّا حدوثها لو تمّ ذلك.
قد نكون قاطنين في كون غشائي في عالم ذي أبعادٍ أكثر عددًا. وقد تكشف التجارب الجارية حاليًا عن
مؤشرات إلى وجود أبعاد إضافية يصل "كبرها" إلى مليمتر واحد.
وطوال عشرين السنة الماضية حاول الفيزيائيون النظريون حل طلاسم هذا اللغز، الذي يسمى المسألة التراتبية للتفاعلات تبعًا لشدتها (سنطلق عليها الاسم المختصر: المسألة التراتبية hierarchy problem). وقد اعتمدت محاولاتهم على تغيير طبيعة فيزياء الجسيمات بالقرب من 19-10 متر (أو 1 تيرا إلكترون ڤلط)(5) وذلك بهدف استقرار السلم الكهر- ضعيف. إن أبسط تعديلات النموذج المعياري لبلوغ هذا الهدف تتضمن نوعًا جديدًا من التناظر يسمى التناظر الفائق supersymmetry. وقياسًا على قلم الرصاص الذي مثلنا به توًّا، فإن التناظر الفائق هو بمثابة خيط غير مرئي يمسك بالقلم ويمنعه من السقوط. ومع أن المسرّعات لم توفر أي دليل مباشر على التناظر الفائق، فإن بعض الأدلة غير المباشرة تدعم توسيع النموذج المعياري بالتناظر الفائق. فمثلاً، باستقراء شدة القوى الشديدة والضعيفة والكهرمغنطيسية نظريًّا عند أطوال أقصر، فإنها تتوافق بدقة عالية شريطة أن يكون الاستقراء محكومًا بقواعد التناظر الفائق. وتشير هذه النتيجة إلى أن توحيد هذه القوى الثلاث مبني على التناظر الفائق عند نحو 32-10 متر، أي عند ما يقارب ألف مرة طول پلانك، ولكن هذه القيمة لاتزال أبعد بكثير عن مجال عمل مصادمات الجسيمات particle colliders.
الثقالة والأبعاد الفضائية الكبيرة
خلال العقدين الأخيرين كان الإطار الوحيد للتصدّي للمسألة التراتبية هو تغيير فيزياء الجسيمات بالقرب من 19-10 متر، وذلك عن طريق إدخال آليات جديدة مثل التناظر الفائق. ولكن العلماء النظريين اقترحوا في السنتين الأخيرتين أسلوبًا يختلف جذريًّا عن ذلك، ألا وهو تعديل الزمكان(6) والثقالة وحتى سلم پلانك ذاته. والفكرة الأساسية لذلك هي أن الحيز غير الاعتيادي لسلم پلانك، والذي ظل مقبولاً على مدى قرن كامل منذ أن اقترحه پلانك، مبنيٌّ على فرضية غير مختبرة تتناول سلوك الثقالة عند المسافات القصيرة.
ينطبق قانون التربيع العكسي في الثقالة لنيوتن ـ والذي ينص على أن القوة المتبادلة بين كتلتين تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينهما ـ انطباقًا جيدًا على المسافات الماكروسكوبية (الكبرية)، وهو يفسر دوران الأرض حول الشمس ودوران القمر حول الأرض وما إلى ذلك. إلاّ أنه لما كانت الثقالة قوة ضعيفة للغاية، فقد اختُبر القانون لمسافات لا تقل عن المليمتر، ويتعيّن علينا أن نقوم بعملية الاستقراء عبر 32 مرتبة عشرية لنتوصل إلى أن الثقالة لا تصبح شديدة إلا عند سُلَّم پلانك البالغ
35-10 متر.
إن قانون التربيع العكسي طبيعي في الفضاء الثلاثي الأبعاد [انظر الشكل العلوي في الصفحة المقابلة]. فإذا درسنا خطوط القوة التثاقلية التي تنطلق بانتظام من الأرض، نجد أنها، عند المسافات الكبيرة من الأرض، تنتشر على قشرة كروية هائلة المساحة. وتتزايد المساحة السطحية بمعدل يتناسب مع مربع المسافة، وبالتالي فإن القوة تتناقص بمثل هذا المعدل. لنفترض الآن أن هناك بُعدًا إضافيًّا، أي إن الفضاء أصبح ذا أربعة أبعاد. في هذه الحالة ستنتشر خطوط القوة على قشرة في أربعة أبعاد وبالتالي يزداد سطحها متناسبًا مع مكعب المسافة، فتتبع قوة الثقالة عندئذ قانونًا للتكعيب العكسي.
ولا شك في أن قانون التكعيب العكسي لا يصف الكون الذي نعيش فيه، ولكن تصوَّر الآن أن البُعْد الإضافي انثنى وأصبح على هيئة دائرة صغيرة نصف قطرها R وأننا ننظر إلى خطوط الحقل الآتية من نقطة مادية صغيرة للغاية [انظر الشكل السفلي في الصفحة المقابلة]. عندما تكون المسافة بين خطوط الحقل والكتلة أقل من R، يمكنها أن تنتشر بانتظام في جميع الأبعاد الأربعة، وبالتالي فإن قوة الثقالة متناسبة عكسيًّا مع مكعب المسافة. ولكن، بمجرد أن يكتمل انتشار الخطوط حول الدائرة، لن يتبقى لها إلا ثلاثة أبعاد لتنتشر خلالها، وبالتالي فعند المسافات الأكبر كثيرًا من R ستتناسب القوة عكسيًّا مع مربع المسافة.
مختصر مفيد
الأبعاد. يبدو أن لكوننا أربعة أبعاد: ثلاثة للمكان (أحدها من أسفل إلى أعلى وثانيها من اليسار إلى اليمين وثالثها من الأمام إلى الخلف)، وواحد للزمان. وعلى الرغم من صعوبة تصور أبعاد إضافية، فإن الرياضياتيين والفيزيائيين درسوا وحلّلوا منذ زمن طويل خواص الفضاءات النظرية التي تمتلك أي عدد من الأبعاد.
حجم الأبعاد. الأبعاد الأربعة المكانية - الزمانية المعروفة لكوننا كبيرة جدًّا. يمتد البُُعد الزماني في الماضي إلى 13 بليون سنة على الأقل، وقد يمتد إلى ما لانهاية في المستقبل. والأبعاد المكانية الثلاثة قد تكون لانهائية؛ فقد كشفت مقاريبنا أجرامًا تبعد عنا أكثر من 12 بليون سنة ضوئية. كذلك يمكن للأبعاد أن تكون محدودة: فبُعْدا سطح الأرض على سبيل المثال يمتدان إلى000 40 كيلومتر فقط وهو طول دائرة عظيمة.
الأبعاد الإضافية الصغيرة. تفترض بعض النظريات الفيزيائية الحديثة وجود أبعاد إضافية حقيقية ملتفّة على هيئة دوائر صغيرة للغاية (ربما ساوى نصف قطرها 35-10 متر) بحيث لم نستطع اكتشافها. تأمل خيطًا من القطن. يمكن اعتبار الخيط على وجه التقريب وحيد البعد، إذ يمكن تحديد مكان وقوف نملة عليه بعدد وحيد. على أننا، باستخدام مجهر، نرى حشرة العث وهي تزحف على سطح الخيط ذي البعدين: على طول البعد الكبير وحول البعد القصير الذي هو محيط الخيط.
الأبعاد الإضافية الكبيرة. تحقق الفيزيائيون مؤخرًا من أن الأبعاد الإضافية التي يصل "كبرها" إلى مليمتر قد توجد وتظل غير مرئية لنا. ومن الغريب غياب أي بيانات تجريبية معروفة تستبعد هذه النظرية التي يمكن أن تفسر عدة مسائل محيرة في فيزياء الجسيمات والكوسمولوجيا (علم الكون). وطبقا للنظرية، سنتكدس نحن وجميع محتويات كوننا الثلاثي الأبعاد (فيما عدا الثقالة) على "غشاء"، شأننا في ذلك شأن كرات البلياردو التي تتحرك على القماش الأخضر الثنائي الأبعاد الذي يغطي طاولة البلياردو.
الأبعاد والثقالة. إن سلوك الثقالة ـ ولا سيما شدتها ـ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعدد الأبعاد التي تنتشر خلالها. وعلى ذلك فقد تكشف دراسات الثقالة التي تؤثر في أبعاد أصغر من المليمتر عن أبعاد إضافية كبيرة؛ علمًا بأن تجارب كهذه تجرى الآن فعلاً. وسوف تزيد هذه الأبعاد أيضًا من توليد الأجسام الغريبة التي ترتبط بالثقالة الكمومية، مثل الثقوب السوداء الميكروية وجسيمات الگراڤيتون والأوتار الفائقة، والتي يمكن الكشف عنها جميعًا خلال العقد الحالي بوساطة مسرّعات الجسيمات ذات الطاقة العالية. < P .G. كولينز>
إن توضُّع كرات على سطح طاولة بلياردو يماثل توضع الجسيمات الأساسية على غشاء كوننا المعروف. تصدر تصادمات كرات البلياردو طاقة في ثلاثة أبعاد على هيئة موجات صوتية (اللون الأحمر)، وهي تماثل الگراڤيتونات. وقد تكشف الدراسات الدقيقة لحركات الكرات عن الطاقة "المفقودة"، ومن ثم عن الأبعاد الإضافية.
يحدث التأثير ذاته عند وجود أبعاد إضافية عديدة، انثنى كل واحد منها ليصبح على هيئة دائرة نصف قطرها R. فإذا كان عدد الأبعاد الكونية الإضافية هو n، فإن قوة الثقالة سوف تتبع قانونًا عكسيًّا للمسافة مرفوعة إلى الأس 2+n. ولما كنا قد قسنا الثقالة عند مسافات لا تقل عن المليمتر، فإننا سنكون غافلين عن تغيرات الثقالة التي تسببها الأبعاد الإضافية التي يكون طول نصف قطرها R أقل من مليمتر واحد. أضف إلى ذلك أن قانون الأس n+2 سيجعل الثقالة تبلغ "شدة سلم پلانك" Planck-scale strength عند قيم أعلى بكثير من 35-10 متر. وبعبارة أخرى، فإن طول پلانك (الذي يحدَّد بالموضع الذي تصبح عنده الثقالة شديدة) لن يكون صغيرًا بتلك الدرجة، وسينخفض أثر المسألة التراتبية.
يمكن حل المسألة التراتبية تمامًا بافتراض وجود أبعاد إضافية كافية لتحريك سلم پلانك ليقترب من السلم الكهر-ضعيف. وسيحدث التوحيد النهائي للثقالة مع القوى الأخرى بالقرب من 19-10 متر بدلاً 35-10 متر بحسب الافتراض الشائع. ويعتمد عدد الأبعاد الإضافية اللازمة على مدى كبرها. وبالعكس يمكننا حساب مدى كبرها، المقابل لعدد معين من الأبعاد الإضافية، لجعل الثقالة شديدة بالقرب من 19-10 متر. فإذا كان هناك بُعْد إضافي واحد فقط، فإن نصف قطره R يجب أن يقارب المسافة بين الشمس والأرض. لذا فقد استبعدت هذه الحالة بالمشاهدات التجريبية. وفي حالة بُعْدين إضافيين، يمكن حل المسألة التراتبية إذا كان قياس كل منهما نحو مليمتر واحد ـ أي حيث ينتهي علمنا المباشر بالثقالة. وتصغر الأبعاد الإضافية في الحيز كلما ازداد عددها. ففي حالة سبعة أبعاد إضافية ينبغي أن يصل قياس كل منها إلى نحو14-10 متر، وهذا يساوي تقريبًا قياس نواة اليورانيوم، وهو صغير للغاية مقارنة بالأطوال التي نتعامل بها في حياتنا اليومية، ولكنه هائل بمقياس فيزياء الجسيمات.
قد يبدو الفرض بوجود أبعاد إضافية مفتعلاً وغريبًا، ولكنه افتراض مألوف لدى الفيزيائيين الذين مارسوه منذ العقد الثاني من القرن العشرين، عندما طوَّر عالم الرياضيات البولندي <T. كالوزا> والفيزيائي السويدي <o.كلاين> نظرية مهمة موحّدة للثقالة والكهرمغنطيسية، واستلزمت بُعدًا إضافيًّا واحدًا. وقد تجدَّد تطبيق هذه الفكرة في النظريات الرياضياتية الحديثة للأوتار، والتي تتطلب عشرة أبعاد فضائية لتحقيق اتساق البنية الرياضياتية الداخلية. فقد افترض الفيزيائيون في الماضي أن الأبعاد الإضافية تتصاغر إلى دوائر دقيقة تقارب قياساتها طول پلانك المأثور، أي 35-10 متر، وهو افتراض يجعل كشف هذه الأبعاد مستحيلاً، كما أنه لا يتعرض للمسألة التراتبية. وبالمقابل، ففي النظرية الحديثة التي نحن بصدد مناقشتها، تلف الأبعاد الإضافية على هيئة دوائر كبيرة تصل أنصاف أقطارها إلى 14-10 متر على الأقل، وربما بلغت المليمتر.
كوننا يتوضَّع على جدار
إذا كانت هذه الأبعاد كبيرة إلى هذه الدرجة فلماذا لم نرها حتى الآن؟ إن الأبعاد الإضافية التي يصل كبرها إلى مليمتر يمكن تمييزها بالعين المجردة وتكون واضحة إذا نُظِر إليها من خلال مجهر. ومع أننا لم نقس الثقالة لمسافات تقل عن المليمتر، فإن في حوزتنا كمًّا هائلاً من المعلومات التجريبية عن القوى الأخرى عند مسافات أقصر من ذلك بكثير تقترب من9-10 متر، ولكنها جميعًا تقتصر على الفضاء الثلاثي الأبعاد. كيف يمكن إذًا أن توجد أبعاد إضافية كبيرة؟
الجواب بسيط ومتميّز في آن معًا: إن كل المادة والقوى التي نعرفها ـ باستثناء قوة الثقالة ـ تلتصق ب"جدار" موجود في فضاء الأبعاد الإضافية [انظر الشكل التمثيلي في الصفحة 64]. ويتعذر على الإلكترونات والبروتونات والفوتونات وجميع الجسيمات الأخرى في النموذج المعياري الحركة في الأبعاد الإضافية؛ ولا يمكن لخطوط الحقل المغنطيسي أو الكهربائي الانتشار في الفضاء الأكثر أبعادًا. فللجدار ثلاثة أبعاد فقط، وبقدر ما يتعلق الأمر بهذه الجسيمات، فقد يكون الكون أيضًا ثلاثي الأبعاد؛ في حين يمكن لخطوط الحقل التثاقلية فقط أن تمتد إلى الفضاء الأكثر أبعادًا، والجسيم الوحيد الذي يمكنه التحرك بحرية في الأبعاد الإضافية هو الگراڤيتون graviton الذي ينقل الثقالة. ولا يمكن الإحساس بوجود الأبعاد الإضافية إلا من خلال قوة الثقالة.
إن البعدَ الإضافي الصغير الذي يلتف على هيئة دائرة (محيط الأنبوب) يقيِّد آليةَ انتشار الثقالة في الفضاء (الخطوط الحمراء). تنتشر خطوط القوة متباعدة عن بعضها بسرعة في جميع الأبعاد عند المسافات التي تقل عن نصف قطر الدائرة (الرقع الزرقاء). أما عند المسافات الأكبر كثيرًا (الدائرة الصفراء) فتملأ الخطوطُ البعدَ الإضافي، ولا يكون لها أي تأثير لاحق فيها.
قياسًا على ذلك، تخيَّلْ أن جميع الجسيمات في النموذج المعياري، مثل الإلكترونات والبروتونات، هي كرات بلياردو تتحرك على سطح طاولة بلياردو هائلة. فالكون بالنسبة إلى هذه الكرات له بعدان فقط. ومع ذلك فإن سكان طاولة البلياردو، أي "كرات البلياردو" يمكنها اكتشاف العالم الأكثر أبعادًا: عندما تتصادم كرتان بشدة كافية تتولد منهما موجات صوتية تتحرك في ثلاثة أبعاد، ناقلة بذلك بعض الطاقة بعيدًا عن سطح الطاولة [انظر الشكل في الصفحة 62]. إن الموجات الصوتية هنا تقابل الگراڤيتونات، التي يمكنها الحركة في كامل الفضاء الأكثر أبعادًا. وفي حالة تصادمات الجسيمات العالية الطاقة، نتوقع رصد طاقة مفقودة نتيجة لانفلات الگراڤيتونات إلى الأبعاد الإضافية.
قد يتوضَّع كوننا على جدار أو غشاء في الأبعاد الإضافية. إن الخط الممتد على طول الأسطوانة (الشكل السفلي الأيمن) والمستوي المسطح يمثلان كوننا الثلاثي الأبعاد، الذي تتجمع عليه جميع الجسيمات والقوى المعروفة باستثناء الثقالة. تنتشر الثقالة (الخطوط الحمراء) عبر كل الأبعاد. وقد يصل كبر الأبعاد الإضافية إلى مليمتر واحد دون أن يتعارض ذلك مع أي مشاهدات نعرفها.
قد يبدو مستغربًا تقييد حركة بعض الجسيمات بجدار، ومع ذلك فإن بعض الظواهر المشابهة مألوفة تمامًا؛ فالإلكترونات في سلك نحاسي مثلاً يمكنها التحرك في فضاء ذي بُعد واحد فقط وهو السلك، ولا تخرج إلى الفضاء الثلاثي الأبعاد المحيط بها. كما أن موجات ماء البحر تتحرك أساسًا على سطحه، لا في أعماقه. والسيناريو المحدد الذي نَصِفُه، والذي تتكدس فيه جميع الجسيمات، فيما عدا جسيمات الثقالة، عند جدار، يمكن أن ينشأ تلقائيًّا في نظرية الأوتار. والواقع إن التحقق من وجود مثل هذه "الجدران" في نظرية الأوتار كان من أهم الأفكار الثاقبة التي أدت إلى الإنجازات الحديثة في هذه النظرية. وتُعْرف هذه الجدران في نظرية الأوتار باسم D-brane حيث تشتق "brane" من كلمة "membrane"، أي غشاء، والحرف D هو الحرف الأول من اسم عالِم الرياضيات(7) "Dirichlet"، الذي أثبت خاصية رياضياتية للأغشية. إن الD-branes تتمتع بالصفات المطلوبة بالضبط: إن جسيمات كالإلكترونات والفوتونات تمثَّل بأطوال دقيقة من الوتر لكل منها نهايتان يتحتم أن تلتصقا بواحد من الD-branes. أما الگراڤيتونات فهي عرى دقيقة مغلقة من الوتر يمكنها التحرك في جميع الأبعاد نظرًا لعدم وجود نقاط نهاية تربطها بالD-brane.
هل مازالت النظرية مقبولة؟
من أول الأمور التي يقوم بها العلماء النظريون المتميزون عندما يطرحون نظرية جديدة هو محاولة نقض هذه النظرية، وذلك بالبحث عن تناقض بينها وبين نتائج تجريبية معلومة. تغيِّر نظريةُ الأبعاد الإضافية الكبيرة قوة الثقالة عند المسافات العيانية (الماكروسكوبية)(8) macroscopic، وتعدِّل بقية الفيزياء عند الطاقات العالية؛ وبالتالي لا بد أن يكون وأد هذه النظرية سهلاً. ومع ذلك، فما يثير العجب أن هذه النظرية، على الرغم من ابتعادها المفرط عن الصورة التي تعوّدناها للكون، لا تتعارض مع أية نتيجة تجريبية معروفة. وتوضح نماذج من الاختبارات التي أجريت مدى الدهشة والاستغراب اللذين توجبهما هذه النتيجة.
مبدئيًّا، قد يقلقنا أن نعلم أن تغيّر قوة الثقالة يمكن أن يؤثر في أجرام سماوية، متماسكة بفعل هذه القوة، مثل النجوم والمجرات. لكن شيئًا من هذا لا يحدث؛ فالثقالة تتغير فقط عند مسافات أصغر من ملّيمتر، في حين تقوم الثقالة ـ في حالة نجم مثلاً ـ عبر آلاف الكيلومترات بتجميع أجزاء النجم المتباعدة معًا. وبعبارة أعم، مع أن الأبعاد الإضافية تقوّي الثقالة عند المسافات القصيرة بدرجة أسرع كثيرًا من المألوف، فإنها تساير شدة القوى الأخرى بالقرب من 19-10 متر، وتظل ضعيفة للغاية مقارنة بهذه القوى عند المسافات الأكبر.
والمسألة التي تثير قلقًا أشد تتعلق بالگراڤيتونات، وهي الجسيمات الافتراضية التي تنقل قوة الثقالة وفق نظرية كمومية. ففي النظرية التي تتضمن أبعادًا إضافية، تتفاعل الگراڤيتونات مع المادة بشدة أكبر كثيرًا (وهذا يكافئ القول بأن الثقالة تكون أشد عند المسافات القصيرة)، وبالتالي لا بد أن يزداد عدد ما يتولد منها زيادة كبيرة نتيجة تصادمات الجسيمات ذات الطاقة العالية. أضف إلى هذا أنها تنتشر في جميع الاتجاهات، فتطرح طاقة من الجدار أو الغشاء، أي من الكون الذي نعيش فيه.
عندما ينهار نجم ثم ينفجر على هيئة مستعرٍ أعظمي، يمكن على الفور للحرارة العالية أن تؤدي إلى تبخر الگراڤيتونات بالغليان لتنتقل إلى أبعاد إضافية [انظر الشكل العلوي في الصفحة 66]. ولكننا نعلم من أرصاد المستعر الأعظمي الشهير A 1987 أن انفجار مستعر أعظمي يبث معظم طاقته على هيئة نيوترينوهات neutrinos، مما لا يكاد يترك مجالاً لأي تسرب للطاقة عن طريق الگراڤيتونات. وعلى ذلك، فإن فهمنا للمستعرات الأعظمية يضع حدًّا لمدى شدة اقتران الگراڤيتونات بالمادة. وكان من الممكن أن يقضي هذا القيد constraint على فكرة الأبعاد الإضافية الكبيرة، ولكن الحسابات المسهبة توضح أن النظرية باقية ومستمرة. إن أقصى القيود شدة يحدِّد بعدين إضافيين فقط، وفي هذه الحالة تبرِّد الگراڤيتونات المستعرات الأعظمية أكثر من اللازم إذا انخفض سلم پلانك الأساسي إلى ما دون 50 TeV تقريبًا. ويمكن أن ينخفض هذا السلم إلى مجرد عدد قليل من الTeV من دون أن يؤدي إلى انمحاق المستعر الأعظمي إذا بلغ عدد الأبعاد الإضافية ثلاثة أو أكثر.
قد توجد الأكوان المتوازية، جنبًا إلى جنب مع كوننا، على أغشيتها الخاصة التي تقع على مسافة أقل من المليمتر من غشاء كوننا. وقد تكوِّن مثل هذه الأكوان المتوازية صفائح متباينة من كوننا مطوية على نفسها. ويمكن تفسير ما يسمى بالمادة الخفية عن طريق النجوم والمجرات العادية التي تحتل الصفائح المجاورة: ويمكن أن تصل إلينا ثقالة هذه النجوم والمجرات (اللون الأحمر) بأخذ مسار مختصر عبر الأبعاد الإضافية، إلا أننا لا نتمكن من رؤيتها لأن الضوء (اللون الأصفر) يحتاج إلى بلايين السنين الضوئية ليقطع المسافة ذهابًا إلى الطيات والعودة منها.
قام الباحثون النظريون بدراسة كثير من القيود الممكنة الأخرى القائمة على تغيرات غير مقبولة في نظم تراوح بين الصورة الناجحة للانفجار الأعظم للكون الفتي، وتصادمات الأشعة الكونية ذات الطاقة العالية جدا. وقد نجحت النظرية في جميع هذه الاختبارات التجريبية، التي وُجد أنها أقل صرامة من قيد المستعرات الأعظمية. ومما قد يثير الدهشة أن صرامة القيود كانت تقل كلما زاد عدد الأبعاد المضافة إلى النظرية. وقد رأينا ذلك منذ البداية: استبعدت حالة البعد الإضافي الواحد فورًا؛ لأن الثقالة ستتغير في هذه الحالة عند مسافات تقارب مسافات المنظومة الشمسية. وهذا يوضح لماذا يكون الأمر أكثر أمانًا كلما زاد عدد الأبعاد؛ يبدأ التزايد المفاجئ في الثقالة عند المسافات الأقصر، وبالتالي يقل تأثيره في السيرورات التي مسافاتها أكبر.
إجابات بحلول عام 2010
تحل النظريةُ المسألةَ التراتبية وذلك بجعل الثقالة قوةً شديدةً بالقرب من طاقات TeV، وهو بالضبط سُلَّم الطاقة الذي ستجري مستقبلاً دراسته باستخدام مسرّعات الجسيمات. ومن ثم لا بد أن تكشف التجاربُ التي ينتظر أن تبدأ عام 2005 في مصادم الهدرونات الكبير(9) (LHC)، عن طبيعة قوة الثقالة الكمومية! فمثلاً، إذا كانت نظرية الأوتار هي الوصف الصحيح للثقالة الكمومية، فإن الجسيمات ستماثل عرى دقيقة من الوتر يمكنها الاهتزاز كوتر الكمان. وتقابل الجسيمات الأساسية المعروفة وترًا لا يهتز كثيرًا مثل وتر كمان لا يعزف عليه. فكل "نغمة موسيقية" مختلفة يولدها اهتزاز وتر تظهر كجسيم غريب جديد مختلف. وتقضي النظريات المعهودة للأوتار، بألا يتجاوز قياس الوتر 35-10 متر، وأن تكون كتل الجسيمات الجديدة من رتبة طاقة پلانك التقليدية ـ و"موسيقى" مثل هذه الأوتار ستكون ذات طبقات نغم عالية يتعذر علينا "سماعها" عند مصادمات الجسيمات. إلا أنه بفضل الأبعاد الكبيرة الإضافية، تكون الأوتار أطول بكثير وتقترب من 19-10 متر، وسوف تظهر الجسيمات الجديدة عند سويات الطاقة TeV ـ وهي سوية منخفضة بدرجة تكفي للسماع عند مصادم الهدرونات الكبير (LHC).
يتولد المستعر الأعظمي نتيجة حدوث موجة صدم انفجارية ناشئة عن انهيار نجم هائل الكتلة. يصدر معظم الطاقة على هيئة نيوترينوهات (اللون الأزرق). وإذا وُجِدت الأبعاد الإضافية، فإن الگراڤيتونات (اللون الأحمر) تحمل طاقة أكثر من تلك التي تحملها في حالة الأبعاد الثلاثة. يقيِّد العلماء النظريون خواص الأبعاد الإضافية بألا يؤدي تسرب الطاقة بالگراڤيتونات إلى انمحاق المستعرات الأعظمية.
وبالمثل، فإن الطاقات التي يتطلبها توليد ثقوب سوداء ميكروية نتيجة لتصادمات الجسيمات قد تكون في المدى التجريبي [انظر الشكل السفلي في هذه الصفحة]. إن ثقوبًا كهذه، يناهز قياسها 19-10 متر، هي أصغر من أن تتسبب في أي مشكلات ـ وستصدر طاقة تسمى إشعاع هوكينگ Hawking radiation وتتبخر بعد أقل من 27-10 ثانية. وبرصد هذه الظواهر يمكن للفيزيائيين سبر أغوار فيزياء الثقوب السوداء الكمومية مباشرة.
وحتى عند مستويات الطاقة التي هي أخفض من المستوى الذي يسمح بإنتاج الأوتار المهتزة أو الثقوب السوداء، فإن تصادمات الجسيمات سوف تنتج أعدادًا كبيرة من الگراڤيتونات، وهذه سيرورة مهملة لا يعتدّ بها في النظريات المعهودة. لم تتمكن التجارب من كشف الگراڤيتونات المنبعثة مباشرة، ولكن الطاقة التي تحملها الگراڤيتونات ستظهر على شكل طاقة مفقودة من الحطام الناجم عن التصادمات. تتنبأ النظرية بخواص محددة للطاقة المفقودة ـ كالنسبة بينها وبين طاقة الاصطدامات ـ وبالتالي يمكن تمييز الدليل على إنتاج الگرڤيتونات من السيرورات الأخرى التي يمكن وفقها نقل الطاقة في جسيمات غير مرئية. إن البيانات الحالية التي يُحْصل عليها من أعلى المسرّعات طاقة تضع الآن بالفعل قيودًا خفيفة على سيناريو الأبعاد الكبيرة. فتجارب مصادم الهدرونات الكبير، إما أن تقدم الدليل على وجود الگرڤيتونات أو تبدأ باستبعاد النظرية نتيجة لغيابها.
يمكن أن تنشأ ثقوب سوداء ميكروية عن مسرّعات جسيمات مثل مصادم الهدرونات الكبير الذي يحطم البروتونات عن طريق تصادم بعضها ببعض عند الطاقات العالية (اللون الأصفر). تتبخر الثقوب السوداء الميكروية بسرعة عن طريق بثها إشعاع هوكينگ من جسيمات النموذج المعياري (اللون الأزرق) والگرڤيتونات (اللون الأحمر).
يمكن أيضًا تقديم الدليل على صحة النظرية عن طريق تجربة مختلفة تمامًا، وربما يتم ذلك قبل تشغيل مصادمات الجسيمات. فلنتذكر أنه في حالة بعدين إضافيين، يجب أن يصل قياس كل منهما إلى مليمتر لكي يمكن حل المسألة التراتبية. وعندئذ قد تكشف قياسات الثقالة تحولاً عن قانون التربيع العكسي في الثقالة لنيوتن إلى قانون عكسي للقوة الرابعة. إن توسيعات الإطار النظري الأساسي تؤدي إلى عدد كبير من الحيودات المحتملة عن الثقالة النيوتونية، وأكثر هذه إثارة للاهتمام هو ظهور قوى طاردة أقوى من الثقالة مليون مرة، بين كتلتين تفصل إحداهما عن الأخرى مسافة أقل من المليمتر. وتجرى حاليًا تجارب مختبرية تستخدم مكاشيف شديدة الحساسية لاختبار قانون نيوتن ضمن مجال من سنتيمتر واحد نزولاً إلى بضع عشرات من الميكرونات [انظر الشكل في الصفحة المقابلة].
ولسبر قوة الثقالة عند مسافات دون المليمتر، من الضروري استعمال أجسام لا تزيد أبعادها كثيرًا على المليمتر؛ وبالتالي فكتلها صغيرة جدًّا. وينبغي توخي الدقة في عزل تأثيرات عديدة مثل القوى الكهراكدة المتبقية والتي قد تخفي أو تشوب الجذب التثاقلي الضعيف. إن تجارب كهذه صعبة ودقيقة، ولكنها مثيرة لأنها قد تكشف عن فيزياء جديدة تمامًا. ففضلاً عن البحث عن الأبعاد الإضافية، من المهم توسيع معرفتنا المباشرة عن الثقالة إلى هذه المسافات القصيرة. هذا ويقوم ثلاثة من الباحثين حاليًا بإجراء تجارب كهذه، وهم: < C.J. پرايس> [من جامعة كولورادو] و<A. كاپتولنيك> [من جامعة ستانفورد] و< G.E.أدلبرگر> [من جامعة واشنطن].
إن فكرة الأبعاد الإضافية تعد امتدادًا لتراث كوبرنيكوس في فهم مكاننا في العالم: فالأرض ليست مركز النظام الشمسي، والشمس ليست مركز مجرتنا، ومجرتنا ليست إلا واحدة من بلايين المجرات في كون لا مركز له. وقد يكون كوننا الثلاثي الأبعاد اليوم برمَّته مجرد غشاء رقيق في الفضاء الكامل الأبعاد. وإذا نظرنا في شرائح الأبعاد الإضافية، وجدنا أن كوننا يشغل نقطة واحدة متناهية في الصغر في كل شريحة، محاطًا بالخواء.
ربما لا تكون هذه هي القصة الكاملة؛ فكما أن درب التبانة ليست المجرة الوحيدة في الكون، هل من الممكن ألا يكون كوننا هو الوحيد في الأبعاد الإضافية؟ إن أغشية الأكوان الأخرى الثلاثية الأبعاد يمكن أن توازي غشاء كوننا، ولا يفصلها عنا إلا مليمتر واحد في الأبعاد الإضافية [انظر الشكل في الصفحة 65]. وبالمثل، فعلى الرغم من أن جميع جسيمات النموذج المعياري يجب أن تلتصق بالغشاء الذي هو كوننا، فقد تنتشر جسيمات أخرى من خارج النموذج المعياري، إضافة إلى الگرڤيتون، في أنحاء الأبعاد الإضافية. هذا وإن الأبعاد الإضافية هي أبعد من أن تكون فارغة وقد تمتلك بُنى متعددة تثير الاهتمام.
قد توفِّر آثارُ وجود جسيمات وأكوانٍ جديدة في الأبعاد الإضافية إجابات لألغاز محيرة كثيرة في فيزياء الجسيمات وفي الكوسمولوجيا (علم الكون). فمثلاً قد تفسِّر مصدر كتل الجسيمات الأولية الشبحية المسماة بالنيوترينوهات. وتوضح دلائل تجريبية جديدة مثيرة حُصِل عليها من تجربة سوبر كاميوكاند Super Kamiokande في اليابان أن النيوترينوهات، التي كان يظن لأمد بعيد أنها عديمة الكتلة، لها كتلة متناهية الصغر إلا أنها ليست صفرا(10). ويمكن للنيوترينو أن يكتسب كتلته بالتفاعل مع حقل مشارك يشغل الأبعاد الإضافية. وكما هي الحال مع الثقالة، يتضاءل التفاعل للغاية نتيجة لانتشار الحقل المشارك في أرجاء الأبعاد الإضافية، وهكذا لا يكتسب النيوترينو إلا كتلة بالغة الصغر.
أكوان متوازية
ثمة مثال آخر ألا وهو سر "المادة الخفية"(11) في الكوسمولوجيا، وهي المادة الثقالية غير المرئية والتي يبدو أنها تكوّن تسعين في المئة من كتلة الكون. فقد تكون المادة الخفية موجودة في أكوان متوازية. وقد تؤثر مثل هذه المادة في الكون الذي نعيش فيه من خلال قوة الثقالة. وهي "خفية" بالضرورة لأن النوعية الخاصة بنا من الفوتونات تلتصق بغشائنا، وبالتالي يتعذر على الفوتونات أن تنتقل عبر الخواء من المادة الموازية إلى أعيننا.
قد تختلف مثل هذه الأكوان تمامًا عن كوننا، وقد تكون جسيماتها وتفاعلاتها مختلفة وربما كانت هذه الأكوان محددة بأغشية أبعادها أقل أو أكثر من أبعاد غشائنا. على أن أحد المشاهد يُظْهر هذه الأكوان بصفات كوننا ذاتها. تخيل أن الجدار الذي نعيش فيه قد طوي عدة طيات في الأبعاد الإضافية [انظر الشكل في الصفحة 65]. فالأشياء على الجانب الآخر لإحدى الطيات ستبدو بعيدة للغاية حتى ولو كانت المسافة بينها وبيننا في الأبعاد الإضافية أقل من مليمتر: فالضوء الذي تصدره هذه الأشياء يجب أن يقطع المسافة إلى الطية ويعود ليصل إلينا. وإذا كانت الطية تبعد عنا عشرات بلايين السنين الضوئية؛ فإن الضوء من الجانب الآخر لا يصل إلينا حتى ولو كان نشوؤه منذ بداية الكون.
من الممكن أن تتركب المادة الخفية من المادة المألوفة، وربما حتى من نجوم ومجرّات عادية تسطع لامعة على طياتها. وقد تولِّد مثل هذه النجوم والمجرات تأثيرات عديدة مثيرة للاهتمام؛ مثل الموجات التثاقلية من المستعرات الأعظمية وغيرها من السيرورات الفيزيائية الفلكية العنيفة. وقد تتوصل أجهزة الكشف عن الموجات التثاقلية، التي ينتظر اكتمالها خلال سنوات قليلة، إلى دليل يؤكد وجود الطيات، وذلك برصد مصادر كبيرة للإشعاع التثاقلي الذي يتعذر تفسير وجوده بالمادة المرئية في كوننا.
ليست النظرية التي ذكرناها أولَ نظرية تتضمن أبعادًا إضافية أكبر من 35-10 متر. ففي عام 1990، اقترح < J. أنطونيادس> [من مدرسة الپوليتكنيك بباريس] أن بعض أبعاد نظرية الأوتار قد يصل إلى - متر، ولكنه احتفظ بسلَّم الثقالة الكمومية قريبًا من 35-10 متر. وفي عام 1996 أشار كل من <P.هوراڤا> [من معهد كاليفورنيا للتقانة] و< E. ويتن> [من معهد الدراسات المتقدمة في پرنستون] إلى أن بُعدًا إضافيًّا واحدًا طوله 30-10 متر سوف يوحِّد الثقالة بإحكام مع بقية القوى الموحدة بالتناظر الفائق، وجميعها عند الطول 32-10 متر. وتعقَّب الفكرةَ ذاتها <J. ليكن> [من مختبر فيرمي الوطني للمسرعات في باتاڤيا بولاية إلينوي] فحاول تخفيض سُلَّم التوحيد إلى نحو 19-10 متر (وذلك دون اللجوء إلى إقحام أبعاد إضافية كبيرة). وفي عام 1998، لاحظ < K. دينيس> [من جامعة أريزونا] و< E. دوداس> و< T. گيرگيتا> [من المركز الأوروبي للبحوث النووية CERN] أن أبعادًا إضافية أصغر من 19-10 متر يمكن أن تسمح بتوحيد القوى عند مسافات أكبر بكثير من 32-10 متر.
ومنذ أن قدَّمنا اقتراحنا عام 1998، ظهر عدد من الاقتراحات المغايرة تثير الاهتمام، وقد استُخدمت فيها المكونات الأساسية نفسها للأبعاد الإضافية وكذلك توضُّع كوننا على جدار. وفي نموذج مثير، اقترحت <L. راندال> [من جامعة پرنستون] و< R. سندروم> [من جامعة ستانفورد] أن الثقالة نفسها قد تكون مركّزة على غشاء في زمكان خماسي الأبعاد ولانهائي في جميع الاتجاهات. وتبدو الثقالة ضعيفة جدًّا في كوننا إذا كنّا على غشاء مختلف.
على مدى عشرين عامًا، ظلت المقاربة المعهودة لحل المسألة التراتبية، وبالتالي لفهم سبب ضعف قوة الثقالة، هي افتراض أن سلّم پلانك بالقرب من35-10 متر هو أمر أساسي وأن فيزياء الجسيمات يجب أن تتغير بالقرب من 19-10 متر. الأمر الذي قد يُبقي الثقالة الكمومية في ميدان التأملات النظرية ولا أمل لها أبدًا في الخضوع للاختبار التجريبي. لكننا تحققنا في العامين الأخيرين من أن الحال ليست كذلك بالضرورة. فإذا كانت هناك أبعاد كبيرة جديدة، فقد نتمكن في السنوات العديدة القادمة من اكتشاف انحرافات عن قانون نيوتن في جوار 6x10-5 متر مثلاً، وسنكشف في مصادم الهدرونات الكبير (LHC) عن اهتزازات وترية أو ثقوب سوداء. وقد تصبح الثقالة الكمومية ونظرية الأوتار علمًا قابلاً للاختبار. ومهما كانت الأحداث القادمة، فسوف تقدم التجربة جوابًا عن السؤال الذي استمر قائمًا 300 عام، وبحلول عام 2010 سنكون قد تقدمنا تقدمًا حاسمًا نحو إدراك سبب الضعف الشديد للثقالة. وربما نكتشف أيضًا أننا نعيش على أرضٍ مسطَّحة غريبة، أي في كون غشائي(12) حيث الثقالة الكمومية على وشك أن تحدث.
المؤلفون
Nina Arkani-Hamed - Savas Dimopoulos - Georgi Dvali
عملوا في استنباط نظرية الأبعاد الإضافية حينما كانوا معًا في جامعة ستانفورد في الشهر2/ 1998 ولد أركاني-حامد في هوستون عام 1972 وحصل على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة كاليفورنيا ببيركلي عام 1997، وعمل أستاذًا مساعدًا بهذه الجامعة عام 1999. يهوى التجول والمشي السريع في المناطق الجبلية العالية وفي صحراء كاليفورنيا عندما لا يكون منهمكًا باستكشاف الإمكانيات النظرية لفيزياء الجسيمات خارج إطار النموذج المعياري. أما ديموپولوس فترعرع في أثينا باليونان وحصل على الدكتوراه من جامعة شيكاگو، ويعمل أستاذًا للفيزياء بجامعة ستانفورد منذ عام 1979. اتجهت أبحاثه أساسًا نحو الكشف عمّا هو أبعد من النموذج المعياري. وفي عام 1981 اقترح بالاشتراك مع هوارد جورجي [من جامعة هارڤارد] النموذج المعياري الفائق التناظر. وأما "جيا" دڤالي فنشأ فيما يعرف اليوم بدولة جورجيا، وحصل على الدكتوراه في مجال فيزياء الطاقات العالية والكوسمولوجيا من جامعة ولاية تبليسي عام 1992، وأصبح أستاذًا مشاركًا في الفيزياء بجامعة نيويورك عام 1998. يعنى بالتغلب على الثقالة عن طريق تسلق الجبال العالية والصخور الثلجية