قال الله عزّ وجل:{{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ *}} [المائدة: 52] .
قوله:{{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} }، كلما رأيت مثل هذا الخطاب فهو إما للرسول عليه الصلاة والسلام، وإما له ولمن يصح خطابه، وتوجيه الخطاب إليه، أي: فترى أيها النبي الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، أو فترى أيها الإنسان.
لما نهى الله سبحانه وتعالى أن يتخذ المؤمنون اليهود والنصارى أولياء؛ بَيَّنَ أن من الناس من في قلبه مرض، فيسارع في موالاتهم ومهادنتهم وموادتهم، ولهذا لم يقل: في موالاتهم ليفيد العموم بل قال: {{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} } أي: في كل ما يكون سبباً لقوتهم وعزتهم، وأمراض القلوب أنواع كأمراض الأبدان تماماً، أمراض الأبدان أنواع: أمراض عضوية في عضو خاص، وأمراض عامة، وأمراض حمى، وأمراض رعشة، أنواع كثيرة، أمراض القلوب كذلك متنوعة، لكنها تدور على شيئين: إما شبهة وإما شهوة، كل أمراض القلوب لا تخرج عن هذين الأمرين: شبهة من حيث يلتبس عليه الحق والعياذ بالله بالباطل، ولا يهتدي للحق، هذا مرض شبهة سببه الجهل، ولذلك يجب على كل إنسان أن يزيل عنه هذا المرض بتعلم الشريعة.
والثاني مرض الشهوة، أي: مرض إرادة وتشهي، بحيث لا يريد الحق مع علمه به، وهذا أخبث من الأول؛ لأن الأول يرجى صلاحه، إذا تعلم، لكن هذا لا يرجى صلاحه إلا أن يشاء الله؛ يعني: لأن هذا يعلم الحق ولكنه لم يعمل به، وهذا أشد.
ولكن اعلم أن المرض كما قلت: أنواع، ففي قوله تعالى: {{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}} [الأحزاب: 32] ، هذا مرض الشهوة في حب النساء والتلذذ بأصواتهن المحرمة استماعها وما أشبه ذلك، لكن في قول الله تبارك وتعالى: {{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}} [التوبة: 124 ـ 125] ، أعوذ بالله، { {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} } يعني: شكاً ونفاقاً، هؤلاء لا يزدادون بالآيات إلا رجساً إلى رجسهم، أجارنا الله من ذلك، ونسأل الله الثبات.
لو قال قائل: عرفنا صورة الموالاة للكفار فكيف تكون صورة الموالاة لأهل البدع، وهل هي كموالاة الكفار؟
الجواب: مثل موالاة الكفار، فمن صور موالاتهم تخفيف بدعهم، ومحاولة أن يختلط هؤلاء بهؤلاء، أي: أهل البدع بأهل السنة، وأتباع السلف.
لو قال قائل: هل استخدام كثير من المسلمين للتاريخ الميلادي يعتبر نوعاً من الموالاة؟
الجواب: نعم، عدول المسلمين الآن من التاريخ الهجري ـ العربي ـ إلى تاريخ اليهود والنصارى لا شك أنه نوع من الموالاة، ولهذا كره الإمام أحمد رحمه الله أن يقول: آذرماه وما أشبه ذلك، والعجب منا نحن العرب! الآن التزامنا بالتاريخ الهجري يقتضيه شيئان: الشيء الأول الدين؛ والشيء الثاني: العروبة، لأنه مبني على مناسبة عظيمة، وهي الهجرة التي بها تكونت الدولة الإسلامية، ولهذا لما اختلفوا في زمن عمر: هل يجعلون التاريخ من البعثة أو من مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «لا من الهجرة؛ لأن الهجرة هي التي حصل بها تكوين الدولة الإسلامية» فمن ثَمَّ جعلوا التاريخ من الهجرة ولم يجعلوه من ربيع الأول؛ لأن مناسبة كونه في محرم أقوى من مناسبة كونه في ربيع الأول؛ لأن الناس ينصرفون من الموسم: موسم الحج بعد أن أدوا فريضة الصوم وفريضة الحج.
قوله: {{نَخْشَى} } أي: نخاف{{أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} } أي: نائبة من نوائب الدهر، والدائرة الشيء المهلك، فنوالي هؤلاء ليكون لنا عندهم يد نحتمي بها.
يقول الله عزّ وجل: {{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} } عسى: من أفعال الترجي، لكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى، أي: لفعله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن نقول: إنها للترجي؛ لأن الترجي هو تمني ما يصعب حصوله بعض الشيء، والله عزّ وجل لا يصعب عليه شيء، ولهذا قال بعض المفسرين وأظنه ابن عباس: عسى من الله واجبة، أي: بمعنى سيقع حقاً، لكنه عزّ وجل يأتي بعسى في مثل قوله: {{فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}} [النساء: 99] ، وما أشبه ذلك من أجل أن يتعلق القلب رجاءً بالله عزّ وجل؛ لأنه لو أخبر بأن هذا سيكون؛ لاعتمد على هذا الخبر الصادق وأنه سيكون، لكن إذا قيل: (عسى)، صار القلب متعلقاً برجاء الله تبارك وتعالى.
قوله: {{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}} «الفتح»: المراد به النصر، كما قال الله تبارك وتعالى: {{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}} [الأنفال: 19] ، يعني: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وقيل المراد بالفتح: فتح مكة، ولكن الصواب الأول، يعني: أن المراد به النصر وذلك من أجل أن يعم فتح مكة وغيره.
قوله: {{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} }، الأمر من عنده يعني: الشأن من عنده، وذلك في بيان مخازي هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، فيفضحهم، وقد فضحهم الله تبارك وتعالى أيما فضيحة في القرآن الكريم في سورة التوبة وفي سورة الحشر وغيرهما، فضحهم الله وبين مخازيهم.
فالأمر هو الشأن والمراد به فضيحة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض؛ لأن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض يأتون للمسلمين ويقولون: نحن مسلمون ويتظاهرون بالإسلام، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
قوله:{{فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} } كلمة «يصبحوا» هنا: تعني فيؤول أمرهم إلى هذا سواء أدركوا ذلك في المساء أو أدركوه في الصباح، وهذا تعبير لغوي سائغ، يقال: أصبح فلان نادماً، ويكون ندمه في الليل أو في المساء، فيعبر أحياناً بالإصباح عن حصول الشيء في أي وقت كان، والنون في قوله: «يصبحوا» محذوفة والتقدير: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}، فتكون داخلة تحت خبر عسى.
وقوله: {{عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} } أي: ما أخفوه في أنفسهم عن المؤمنين؛ لأنهم يخفون عن المؤمنين أنهم يسارعون في هؤلاء، ولكن الله تعالى فضحهم.
وقوله: {{عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} } خبر يصبحوا، ولهذا نصبت بالياء، والندم: انفعال نفسي على ما بدر من المرء مما يقبح فعله أو قوله، هذا هو الندم، وكل إنسان منا يحس في نفسه معنى الندم؛ لأنه انفعال نفس يحصل بالتأسف على ما مضى مما يقبح فعله أو قوله، ولهذا من شروط التوبة: الندم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون يسارعون في موادة الكافرين.
الفائدة الثانية : أن كل من يسارع في موادة الكافرين وفي مناصرتهم ففي قلبه مرض، وينبني على ذلك أن هذا المرض ربما يتضاعف حتى يصل إلى الكفر والعياذ بالله.
الفائدة الثالثة: التحذير الشديد من موالاة هؤلاء الكفار والمسارعة فيهم.
الفائدة الرابعة: أن من سارع فيهم ففي قلبه مرض.
الفائدة الخامسة: ضعف توكل المنافقين على الله وأنهم إنما يتوكلون على الأمور المادية التي يظنون فيها النصر، لقوله: {{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} }.
الفائدة السادسة: أن من أشار على ولاة الأمور بالمسارعة في موادة الكفار وفي مناصرتهم، فإن فيه شبهاً من هؤلاء المنافقين.
الفائدة السابعة: بشارة المؤمنين بأن الفتح والنصر سيكون لهم، لقوله: {{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} }.
الفائدة الثامنة: أن المنافق لا بد أن يفضحه الله، لقوله: {{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} }، وهذا مشاهد، كما روي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ما أسر أحدٌ سريرة، إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه»، فلا بد أن يظهر نفاق المنافق، إلا أن يتوب إلى الله.
الفائدة التاسعة: تحذير المنافقين مما سيقع بهم من الندم على ما أسروا في أنفسهم، لقوله: {{فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} }.
المصدر تفسير ابن عثيمين رحمه الله