معنى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
هناء الشنواني
معنى
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
بدأتْ سورة الذَّاريات بالقَسم بالقوى التي لا يَملِكها الإنسان مثل الرياح، وهي قد تأتي بالخير أو الدمار، والسَّحاب الذي قد يأتي بالخير أو الصَّواعِق، والسفن التي تَجري في البحر، وقد تأتي بالرِّزق، وقد يُنجِّي الله بها من يشاء ويُغرِق من يشاء، والملائكة كذلك الذين يَنزِلون بالبشارة أو بالعذاب؛ يقول تعالى: ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ﴾ [الذاريات: 1 - 4].
وأَقسَم الله بها بأنَّ ما وعَدَنا به لواقِع؛ ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ﴾ [الذاريات: 5]، وكما جاء في تفسير "البحر المحيط" أنَّه يَحتمِل الوعد أو الوعيد؛ إذ يَحتمِل "تُوعدون" الأمرين، أنْ يكون مضارعَ "وعد"، ومضارع "أَوعَد"، وذكَر - تعالى - صفاتِ أهل النار وصفات أهل الجنة، وبعد ما ذكَر صفات أهل الجنة قال - تعالى -: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾ [الذاريات:20- 23]، وكأنَّ المعنى يُشير بأن المؤمنين من صفاتهم أنَّهم يُفكِّرون في آيات الله التي في الأرض؛ كقوله - تعالى - في نفس السورة: ﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [الذاريات: 37] ومن صفاتهم أنهم يعلمون أنَّ الرزق وما وعدنا به الله مِثلَ نصْر المؤمنين وهلاك الظالمين يُطلَب منه ويُتوسَّل بطاعته لجلبِه، أو ربَّما تَعني ما يَحدُث في الأرض من آيات أمامنا عِظة وعبرة لوجود الخالِق، ومن السماء يأتي وعدُ الله ووعيده، وفي آخر السورة تَوعَّد الكافرين؛ فقال تعالى:﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات:59 - 60] وبين المقدِّمة والخاتمة ذكَر الله - تعالى- أيضًا الخوارق التي جرتْ في الدنيا بإذنه أولاً عن طريق الملائكة الذين بشَّروا سيدنا إبراهيم ببشارة الوَلَد، وهم الذين دمَّروا قوم لوط وأَغرَقوا فرعون وجنوده، ولقد أقَسَم الله بهم في بداية السورة: ﴿ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ﴾، وتدمير عاد بالرياح، وقد أقَسَم الله تعالى بها، وثمود بالصاعقة، وقد أقَسَم - تعالى- بالسَّحاب في البداية، وإغراق قوم نوح، وفي المقابل إنقاذ المؤمنين، وقد أقَسَم - تعالى- بالجاريات وهي السفن، ثم قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 55 - 58].
ويُفهَم من السياق أنَّ المعنى هو أنَّ الله - تعالى-لم يَخلُق الجنَّ والإنس ذوي قوى خارِقة، وإنَّما خَلَقهم مُهيَّئين للعبادة فقط، ذكَر هذا المعنى الأخير السمين الحلبي في "الدُّر المصون" فقال: "أو يكون المعنى: إلاَّ مُعَدِّين للعبادة"، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 8].
كما خلَقَهم - تعالى- مُهيَّئين للطعام والشراب والسير في الأسواق لطلَب حوائجهم، وحياتهم قصيرة لا يُخلَّد أحد، أيضًا هم ليسوا ذوي قوى خارِقة، وكما أنَّ الله خلَق البشرَ يُصلِحهم الطعام، خَلَقهم تُصلِحهم العبادة؛ فلقد ذكر - تعالى - في السورة الملائكة الذين رفَضُوا الطعام، فهم لا يأكلون، وذَهبوا إلى قوم لوط ودمَّروهم، لم يَذكر - تعالى - في السورة الكريمة إنسانًا فعَل فعلاً خارقًًا ولا جِنيًّا، وإنَّما ذكَر الملائكة، ووصفتِ الآية كيف اسْتقبلتْ زوجة سيدنا إبراهيم خبر البشارة بالوَلَد وهي عجوز عقيم حيث صكَّتْ وجهها، وخاف سيدنا إبراهيم من عدم تَناول الملائكة الطعام، كلُّ ذلك القلق يُنبئ عن طبيعة البشر، وجاء في كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للدكتور محمد عبدالخالق عضيمة في تفسير اللام في الآية الكريمة: "اللام للغاية والعاقبة، لا للعِلَّة الباعثة لما هو معلوم أنَّ الله لا يَبعثه شيء على شيء" 472 ج(2).
فالإنسان إذا ابْتغى القوة الخارِقة والنُّصرة والولاية والتوفيق، فما عليه إلا الإخلاص في العبادة وتوحيد الله واتِّباع أوامره، والله يُؤيِّده إذا شاء، فالأمر لله وحدَه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالله كما يمدُّ الناس بالرِّزق يَمدُّهم بالقوة كقوله - تعالى- في سورة آل عمران: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 124، 125]، وكذلك الجنُّ ليسوا ذوي قوى خارِقة والاستعاذة بالله منه تَجعلُه يَخنَس، ويُفهَم من الآيات أنَّ الملائكة ذوو قدراتٍ خارِقة، ومنها أنَّهم لا يأكلون، ومعلوم أنَّ الملائكة لا تَموت، إنَّما الاختلاف في كونِها ستموتُ يوم القيامة أم لا عندما يُنفَخ في الصور، ولكن رُغم قُدراتِهم الخارقة يَفعلون مايُؤمَرون؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون ﴾ [التحريم: 6]، ومِثل ملك الموت يَقبِض الأرواح، ولكن بأمر الله، وكذلك الملائكة الذين يُقاتِلون مع المؤمنين، أمَّا الجن الذي عرَض على سيدنا سليمان بأنْ يَأتي له بعرش ملكة سبأ؛ فلقد قال الله عنهما: ﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 39، 40].
تدلُّ على اعتمادهم على الله، وليس على قوتِهم الخارِقة كما جاء في كُتُب التفسير أنَّه دعا الله باسمه الأعظم الذي إنْ دَعي به أجابَ؛ لقوله - تعالى- : ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [النمل:40]، وهذا الوصْف في هذه الآية قد تدلُّ أيضًا على التجاء العفريت الأول إلى الله – تعالى - ولكن ليس علمه كعِلم ذاك كما أنَّ البشر يَتفاوتُون في العِلم والعبادة، ودائمًا الإنسان يَبحثُ عن مصادر القوَّة من قديم الزمن، فتَارة في المال أو السلطة أو كَثْرة الأولاد والعشيرة، وإمَّا بطلَب الحماية من الأقوى والعيش تَحت ظِلِّه، وإنْ أطاعه في الباطل خوفًا على نفسه، فأرَسَل الله الرُّسل لتحرير العباد من عبادة غير الله، ولا يتُّم ذلك إلا باتِّباع أوامر الله وذكْر الله وعبادته؛ أي: أن يكون العبد موصولاً بقوة كبرى تعينه على الحياة ومواصَلة الحياة سواء في السرّاء أو الضراء، إذن فعبادة الله - تعالى- لابديل لها ولاغَنى عنها لمن يُريد الحماية، وكأن إنسانًا ذليلاً يقول: خَلَقني الله ضعيفًا ليس لي حيلة ولاوسيلة إلا اتِّباع فلانٍ، فالردُّ عليه بقول الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ﴾ [الذاريات: 56]، بأنْ يُذلَّ بعضهم بعضًا، وأن يكون بعضهم تَبعًا لبعض، وإنَّما خلقتُهم مُحتاجين إليَّ وحدَي، إنْ هم قاموا بهذه العبادة، وهذا الاتِّكال، فنعم الوكيل هو؛ كما قال تعالى في نفس السورة: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50، 51]، فلا ملجأ من الله إلا إليه.
وفي الحديث عن أنس قال: قال أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، إنَّا إذا كنا عندك رأينا في أنفسنا ما نُحب، وإذا رجَعنا إلى أهلينا فخالطناهم أَنكرنا أنفسنا، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو تُدومون على ما تكونون عندي في الخلاء لصافحتْكم الملائكة حتى تُظلَّكم بأجنحتها عَيانًا، ولكن ساعة وساعة)).