تعرف الأزياء التونسية المستوحاة من التراث تطويرات عديدة في الآونة الأخيرة، في محاولة لجعل الملابس التقليدية مواكبة للعصر ومتطلبات الاستعمال اليومي.
فإلى عهد قريب، كانت هذه الأزياء قصرا على المناسبات الوطنية والدينية، بدءا بالبرنس التونسي، والجبة والشاشية (القبعة)، إلى مستلزمات اللباس التقليدي، مرورا بـ «الملية» المنتشرة بين نساء الشمال التونسي، و«الحرام» الذي تقبل عليه نساء الوسط والجنوب، كذلك «السفساري»، الذي ينتشر بين نساء المناطق الحضرية بالخصوص.
والملاحظ ان الهدف من هذه التطويرات، إثراء الحاضر عبر استلهام الماضي، الأمر الذي تساهم فيه العديد من المواهب الشابة العاملة في قطاع الصناعات التقليدية، بكل أشكالها. ومشاركتها السنوية في مسابقة «الخمسة الذهبية»، وهي عبارة عن تظاهرة تحتفل بيوم الصناعات التقليدية واللباس الوطني في منتصف شهر مارس (آذار) من كل عام.
وغالبا ما تنطلق استعدادات الطاقات الشابة المبتكرة للتصاميم الحديثة المستمدة من اللباس التقليدي التونسي مع نهاية كل دورة، إذ ان العملية تتطلب أبحاثا متنوعة ومضنية بهدف طرح المميز لكل جهة، وكلما تم المزج الذكي بين اللباس التراثي مع اللمسات المعاصرة التي تزيد من الإقبال على اللباس التقليدي، كانت النتائج جيدة، وتتويجا لمجهودات المشاركين في هذه المسابقة.
ويلتقي في هذه المناسبة المصممون الشباب مع متخصصين لهم باع طويل في الصناعات اليدوية والحرفية، من خلال ابتكارات موجهة إلى النساء والرجال على حد السواء، في محاولة لاستمالة الفئات التونسية المختلفة نحو اللباس التقليدي التونسي، الذي عرف فترات صعبة خلال العقود الماضية مما هدد باندثار الكثير من أشكاله.
يذكر أن قائمة الأسماء المشاركة هذه السنة، ضمت 23 اسما ساهمت كلها في إثراء عالم الموضة والأزياء في تونس، وكلهم عملوا من أجل استنباط ملابس ذات روح تونسية تختلف في جوهرها عن الملابس الغربية السائدة بين صفوف الفئات الشابة في الوقت الحالي.
وقد مزجت هذه الأزياء بين أهم ما يميز الملابس التقليدية التونسية من «طريزة» وجيوب ومتممات غالبا ما نلاحظها على مستوى أكمام الجبة والبرنس و«الملية»، وبين ما يشتهيه الشباب التونسي من ألوان وأشكال تبتعد قليلا عن الملابس التقليدية العادية التي غالبا ما تكون فضفاضة وواسعة، لتصبح متناسقة مع الأجساد متماشية مع أشكال الموضة العصرية.
وأفرزت الدورة الثالثة عشرة لمسابقة «الخمسة الذهبية» الأخيرة، ثراء واضحا على مستوى ما تم تقديمه. فقد تميزت بتعدد وسائل التعريف بالابتكارات التي يعمل الديوان الوطني للصناعات التقليدية على تدعيمها وتكثيفها لمساندة المبدعين الشباب بالترويج الواسع لمنتجاتهم وإرجاع الاعتبار للباس التقليدي في بلد تهب عليه رياح التغريب من كل جانب.
ويسند الديوان المذكور سنويا ثلاث جوائز لأفضل الابتكارات، وقد أسندت الجائزة الأولى خلال هذه الدورة لمصممة الأزياء هاجر بوراوي من ولاية المنستير الواقعة بالوسط الشرقي للبلاد، في حين حصل على الجائزة الثانية المصمم الشاب الياس الأنداري من تونس العاصمة، وكانت الجائزة الثالثة من نصيب الحرفية سميرة النصيري من ولاية سيدي بوزيد الواقعة بالوسط الغربي.
وقد اعتمدت تصميماتهم على الملابس التراثية كمادة أولية تم صبغها بطابع عصري عملي يراعي انخراط المرأة التونسية في الحياة العامة. أما على مستوى الملابس الرجالية، فقد سعى أيضا أن يضفي عليها مظهرا شبابيا على أساس أن معظمهم هم المستقبل الذي يعتمد عليه بقاء هذه الصناعة.
مصممة الأزياء هاجر بوراوي الفائزة بالجائزة الأولى، اعتمدت ـ حسب ما ذكرت لنا ـ في مجموعة ابتكاراتها على اللباس التقليدي المميز لمنطقة الساحل الشرقي التونسي، ومزجت فيه بين «الجبة» و«البرنس» و«الفرملة» و«السروال العربي».
وأضافت أنها اعتمدت على الزينة المميزة لكل من هذه الملابس حتى تتناسب مع اللباس النسائي بعد أن ظلت هذه الأزياء، لمدة عقود، متوجهة للرجل في المقام الأول. واختارت هاجر ألوانا متوهجة بألوان الطبيعة، مثل البرتقالي والبنفسجي والأخضر وعمدت إلى إدخال الخطوط، سواء بصفة طولية أو عرضية، وكانت معظم المكملات والزينة مستوحاة من الجبة والبرنس التونسي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المشاركة الأولى لهاجر، فقد سبق لها أن فازت بالجائزة الثالثة في المسابقة، إلا أنها أصرت في هذه السنة «على المزيد من البحث والتقصي بهدف الابتكار والبحث عن نموذج متفرد للباس التقليدي»، وهذا ما كان.
فقد ركزت على المميزات الهائلة للخطوط التونسية والألوان الخاصة بالأزياء التي توارثتها الأجيال وتعتبر مادة دسمة حان الوقت لتطويرها. فالنسيج اليدوي التقليدي لا يمكن مقارنته في كل الأحوال بالملابس العصرية المتشابهة، والصوف والقطن والأقمشة تعد مصدرا طبيعيا للأزياء من دون أن تطرأ عليها تغييرات كثيرة باعتبارها مواد طبيعية.
ولم تخف هاجر سعادتها بهذه الجائزة، حيث دعت إلى أن يكون الاحتفال باللباس التقليدي على مدى أسابيع، أو ان تنظم بشكل موسمي حتى يتسنى للمبدعين تقديم ابتكاراتهم الخاصة بكل موسم. ودعت أيضا إلى التفكير في الانفتاح على الجهات والمحافظات الأخرى، لاستقطاب حرفييها.
أما الياس الأنداري، المصمم الشاب الذي يشارك لأول مرة، والحاصل على الجائزة الثانية، فقد اعتمدت المجموعة التي قدمها على اللون الأبيض في مجموعها. في لقائنا معه أشار إلى أنه اعتمد في زينة تصاميمه على «حرج» الجبة التونسية، سواء بالنسبة للخطوط أو من ناحية الزينة، وتطلق كلمة «الحرج» حسب مصطلحات الحرفيين، على كل المواد المستعملة في زينة الملابس التقليدية، واعتمد كذلك على القماش من نوع «القمراية»، وهو قماش قريب من «السفساري» التونسي الموجه أساسا للنساء، مع العلم انه وجه مجموعته للرجال والنساء على حد سواء.
اللافت في لمسات هذا الشاب أنه يسعى جاهدا إلى تبسيط اللباس التقليدي التونسي ـ حسب قوله ـ ليجعله قريبا من اهتمامات جميع الطبقات الاجتماعية، إذ ان أسعار بعض الملابس التقليدية التونسية ظلت بعيدة عن متناول التونسيين العاديين، وهو ما يجعل الإقبال عليها متعثرا ومحصورا داخل أوساط معروفة سلفا.
أما الفائزة الثالثة، سميرة النصيري، فاتجهت نحو البرنس التونسي الذي حاولت أن توجهه للمرأة، وهو ما نجحت فيه من خلال مزجها الذكي بين التراث والحداثة من ناحية، والمصالحة بين الملابس النسائية والرجالية من ناحية ثانية. بالنسبة للألوان، اعتمدت كليا على اللونين الأحمر والأسود، فاللون الأحمر جاء في معظمه من لون «الملية» التونسية التي ترتديها على وجه الخصوص نساء الأرياف التونسية، فيما جاء اللون الأسود من اللباس الرجالي التقليدي الخاص بصناعة «البرنس» التونسي.
أما بالنسبة للمسات التي اعتمدتها في الزينة والتزيين، فقد استقتها هي الأخرى من البرنس والجبة. وتلاحظ سميرة النصيري، أنها تشارك للمرة السادسة في هذه المسابقة، وحصلت للمرة الثانية على التوالي على المرتبة الثالثة، وتسعى خلال مشاركاتها إلى تقديم الجديد دائما، معتمدة على وصفتها المعروفة بحسن اختيار الأقمشة وتنسيقها مع الألوان المتماشية مع روح العصر إلى جانب متابعة مستجدات الموضة العالمية.
إلا أنها لا تخفي ارتفاع تكاليف اللباس التقليدي، لأن الأقمشة المختلفة ـ حسب رأيها ـ تبقى بعيدة عن متناول الحرفيين الصغار، مما يجعل الاهتمام باللباس التقليدي يعرف بعض الصعوبات.
وفي انتظار أن يقع تسويق هذه التصميمات والابتكارات على نطاق واسع، يقر المصممون الذين التقيناهم بصعوبة ترويج اللباس التقليدي بسبب ارتفاع كلفة المواد الأولية، مما ينعكس لاحقا على أسعار الترويج، كما أن ارتداء الملابس التقليدية ما زال مرتبطا في الأذهان بالمناسبات الدينية والعائلية، ومناسبات المساء والسهرة والأفراح والليالي الملاح، هذا بالرغم من روح الابتكار التي باتت تميزه ويجتهد المصممون الشباب في إدخالها عليه.