بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
بعيداً عن جدل المفردات، ونزق المصطلحات بين الثّورة والانتفاضة، وما يصحب ذلك في الغالب من جدل عقيم، يشتّت الجهود، ويقرّق الصّفوف، وبوغل في الفرقة، ويذكي النزاع والتّشرذم، أحببت في هذه الأحرف أن أبتعد عن ذلك كله، وأن أنظر إلى ما يحصل لإخواننا المستضعفين في بقاع المعمورة، وفي أرض الشّام المباركة وفي سورية منها على وجه الخصوص نظرة قرآنيّة.
فالنّظرة البشرّية مهما اكتملت فهي صنيع بيئة، ونتاج واقع، وأثر محيط.
أمّا النّظرة القرآنية فهي النظرة الكاملة الدّقيقة لأنّها نظرة العليم الخبير، { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك 14]
فمن خلق النّفوس أدرى بأحوالها، ومن وضع نظام الكون أرسى له دعائم وسنناً لا تتبدّل ولا تتخلّف، وإن تغيّرت المسمّيات، وتبدّلت الوجوه، وتحوّلت الظّروف، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا }[فاطر 43].
* من علامات المستبدّين:
إن المستبدّين والطّغاة عبر التّاريخ شركاء في الغيّ والفساد، إلّا أنّ ما يفرّقهم هو الزّمان والمكان، والتّفاوت في استعمال معاول البطش والتهديم، وما فرعون الذي ذكره القرآن الكريم إلّا رمزٌ من رموزهم، ولونٌ من ألوانهم، ويمثّل حال كثيرٍ منهم، تجرأ الملعون على خصائص الجبار في عليائه، واستعبد عباده في أرضه، يقول جلّ من قائلٍ بشأنه: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[فاطر 43].
فأساسيّات الاستبداد واحدة من لدن قيام أول طاغية مستبدٍ في الأرض إلى يومنا إلى قيام السّاعة:
أ- تفريق الأمّة وتفكيك وحدتها، من فرعون اللّعين، مروراً بالاستعمار البريطاني والفرنسيّ الصّليبيّ الذي أصّل لقاعدة ((فرق تسد)) في العالم الإسلامي المعاصر، وصولاً إلى عصرنا الحاضر والمستبدّين الجبناء.
ب- استعباد البشر وإضعافهم، وسلبهم حقوقهم، واستغلال طاقاتهم، وتقريب طائفة يكون ولاؤها له، وتكون أسوأ منه بطشا، وقد قالوا: ((إنّ المستبدّ لا يأمن على بابه إلّا من يطمئنّ أنّه أظلم منه)).
ت- صنع بطانة تهلّل وتزمّر، وتمدح وتمجّد من سحرة وشعراء، وأغنياء وأغبياء على حدٍّ سواء، ويسخّر في سبيل تلميع صورته الألسن والأقلام وخاصّة اليوم في زمن سلطة الإعلام، ويكون على رأس أولئك المؤلّهين له فعلا أو قولاً أرباب الدّين وشيوخ المعابد، ممّن يبيعون دينهم بعرض ٍ من الدّنيا قليل، أو ممّن أعماهم هواهم، وأضلّهم عنادهم ممّن باعوا دينهم بدنيا غيرهم، كمن قال الله فيهم: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية 43].
* وسائل البطش:
تتفاوت وسائل البطش من عصر إلى عصر، ومن مستبدٍ لآخر، لكنهم يشتركون في القتل والذّبح واستباحة الأملاك والأعراض، إشباعاً لنهمهم البهيمي، وإغراء لجنود باطلهم لاستمرار الولاء، وتخويفاً لهم من شرّ هذا العقاب إذا ما خرجوا عن الصّف وغيّروا المسار، كلّ هذا أسوة بالفرعون الأكبر، والمستبد الأجهل الذي عبّد للمستبدّين من بعده الطريق كما أخبرنا عنه الباري جلّ جلاله: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[فاطر 43].
* الطّغاة والإصلاح:
بما أنّ (( الحقوق تؤخذ ولا تُعطى))، وبما (( أنّ العبيد هم وحدهم من يطلبون الحريّة، أمّا الأحرار فيأخذونها)) فإنّه لا يرجى من المستبدّ إعطاء الحقوق، لأنّه لا يُرجى من الأفعى عسلاً، ولأنّه بذلك يُخالف نفسه، ويُعادي طبعه، فلا ينفع معه الحوار وإن زعمه، ولا يجدي معه العقل والفكر لأنّه لهما افتقد، وبتعطيلهما وصل إلى الحكم واستبد، فهو يعرف أنّه وصل إلى الحكم بالاغتصاب، واستمر فيه بالاستعباد، وله يقين كاملٌ أنّه سيخرج منه بالسوط والسّباب، فيسعى لذلك أن يطيل مدّة بقائه، لعلّه يكون غير ما كان عليه السّابقون، ويعمّر أكثر ممّا عمّر إخوانه الطّغاة قبله والمستبدّون.
{ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } [يونس 90] وأغرق النّاس بطغيانه، وضاقت الأرض من ظلمه على النّاس بما رحبت، وهبّوا لاسترجاع حقوقهم رمى لهم بتميمة الوطن، وأسكتهم بوعود الإصلاح، وتعهّد لهم باسترجاع الحقوق، ونشْر ما يسمع أنّ الحياة الكريمة تقوم به لعلّه يحافظ بهذه الوعود الكاذبة التي يخالف فيها نفسه بقاءً وأمداً، { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس 90].
وكذلك حال الطغاة مع الإصلاح حتّى إذا أدركهم المدّ الإصلاحيّ، وثورة استرجاع الحقوق الباسلة قال: آمنت أنّكم بشر، وأنّ لكم حقوقاً، وأنّ هناك شيئاً اسمه الإصلاح وأنا من المصلحين.
خطاب فرعوني كاذب، يصحبه تنكيل وإرهاب عملي منظم، لعلّه بذلك يخمد جذوة اللّهب الثوري، ويكسب وقتاً يمكّنه من سحقها بشتّى أدوات التّعذيب والتّنكيل.
* سنّة التّداول:
سنّة الله في الكون ثابتة، وعادته فيه ماضيّة، ينصر المظلوم ولو بعد حين، ويُعلي الحقّ ولو خفت لسنين، ويخذل الباطل مهما علا من المستبدّين،{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا }[فاطر 43].
فالكون كما أراده الحكيم في عليائه أن يكون مبنيّاً على التّداول،{ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }[آل عمران140].
مبنيّاً على الّتداول{ :لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال37].
مبنيّاً على التّداول لأنّه جلّ جلاله يقول عن نفسه: { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الأنفال7-8].
ولو كره الطّغاة والمستبدّون، ولتستمرّ قوافل الحقّ في الدّفاع عنه، وتندحر جموع الباطل مهما طال بها مقام الظلم والاستبداد.
فمهما أخلد الحاكم إلى الكرسيّ فإلى زوال، ومهما أحاط نفسه بأعوان وزبانيّة فالنّهاية المآل، لأنّ أيّام الحكم معدودة، ونهايات المستبدّين السّابقين مشهودة، فلن يعمّر في الحكم إلى الأبد، والذّلة الخاتمة ولو سمّى نفسه أسد.
* الظلم عنوان الزّوال، وأساس حكم المستبدّين الأنذال:
الظلم هو المشترك الجامع الذي لا يتخلّف عند الطّغاة والمستبدّين، فبه يمتّنون مقاعدهم، وبه يرسّخون بقائهم، وبه يفرضون منطقهم وحكمهم، ويجلبون من خلاله الولاء بزعمهم، فالظلم صنو العدل في الحكم الإسلاميّ عندهم، لأنّ به استتباب أمن البلاد!!، وبه الشّعوب تستكين، والحاكم بعدها يتجبّر ويهين.
فالظلم هو السّلاح الأمضى عند المستبدّين، والقاعدة الأساس لحكمهم اللّعين، لذا جعل الله خاتمته الزّوال، قصر الأمر أم طال، ومهما ظنّ البشر أن الأمر قد استحال، وأنّ حكم الظلم هو المآل، فبشّر سبحانه في الحديث القدسي بالنّصر للمظلوم ولو بعد حين، (( بعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين))[أخرجه ابن ماجه، باب في الصائم لا تردّ دعوته برقم: 1752].
فمهما استبدّ الظلام فإنّ الشّمس لا محالة مشرقة.
وجعل جلّ جلاله لهذا الظالم نهاية لا يعلمها إلّا هو سبحانه، حدّد لها وقتاً لا ندركه، وضرب لها موعداً لا نعرفه، لكنّ المؤمن يسعى أليه ويأمله،{ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } [الكهف 59]، موعدٌ تستعجله طبيعتنا البشريّة، لكنّه قادمٌ لا محالة لأنّه وعدُ من لا يخلف الميعاد.
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد }[هود102]، أخذ ربّك بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء.
ثمّ إنّه سبحانه جعل لهذا الهلاك والأخذ مراتب ومراحل: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }[الإسراء16].
إنّها مراحل:
المرحلة الأولى: أمرناهم بالطّاعة، لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
المرحلة الثّانية: استفحال الفجور والفساد.
المرحلة الثّالثة: تحقّق شروط الدّمار فيهم.
المرحلة الرّابعة: مرحلة الدّمار.
بل هناك قراءةٌ شاذّةٌ بتشديد الميم )) أَمَّرْنَا))، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وأبي العالية ، وأبي عمرو ، وأبي عثمان النهدي رحمة الله عليهم قد تكون خاصّة بالحكّام، وقد تكون بمعنى جعلناهم حُكّاماً ففعلوا ما فعلوا فاستحقّوا ما استحقوا.
* وعد الله بالنّصر للمظلومين، والتّمكين لهم في الأرض ولو بعد حين:
تعهّد الله بالنّصر للمظلوم مهما طال الأمد، وبغى المستبدُّ وفسد،(( بعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين))[سبق تخريجه].
بل قصّ علينا القرآن قصّة تنطبق على حالنا، هي قصّة سيّدنا نوح على نبيّنا وعليه السّلام وهو يتضرّع لربه: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ }[القمر 10]، لأنّك ربّ المستضعفين، ولا ناصر لهم إلّاك.
فما كان الجواب الرّباني؟ { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّماء... } [القمر 10]، وربُّ نوحٍ ربّنا، وسنّته مع نوحٍ سنّته معنا، فلا شكّ في نصرنا وإن استبعده المستبعدون، وشكّ فيه المشكّكون، غير أنّه ينبغي أن نسعى لتحقيق شروطه واستكمالها، واليقين بحسن اختيار الله لنا، وإن رأياً آخر.
ويقول البيان القرآني أيضاً: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار } [غافر 51-52].
نصرٌ في الحياة الدّنيا، ونصرٌ هناك، نصرٌ في الحياة على الطّاغيّة المستبد مهما تغلّب اليأس على القلوب، ومهما ادلهمّت المصائب والخطوب.
وبشّر بعد هذا كلّه بالتّمكين في الأرض للمستضعفين من عباده على حساب فراعين الكون بالأمس واليوم، { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [ القصص 5-6].
تمكينٌ بعد ضعف، وعزّةٌ بعد ذلّةٍ، كل ذلك عبرةً للمستبدّين السّابقين واللّاحقين.
* السّقوط المتشابه، والمصير المحتوم للطغاة:
كلّ مستبدٍّ يعتقد أنّ مانعته من النّاس قوته الماديّة، وذلك بأن يحبس على النّاس أنفاسهم، وإحاطة نفسه بزبانيّة يُرهبون الخلق، ويمنعون الحقّ، مع تسلّحٍ بشتّى صنوف الظلم الماديّ والمعنويّ ليغرس الرّهبة والرّعب في النّفوس، ويعطّل حسّ الكرامة في الرؤوس، فتقرّ له بالاستعباد،{ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا } [ الحشر 2]، وظنّ هو أيضاً أنّ ملكه محصّن، { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } [ الحشر 2]، بعد هذا تأتي قوّة القويّ وإرادة الجبّار، { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الأنفال8]، بذبابة كما فعل مع النّمرود، أو بزرع رعب يفكّ به القيود،{ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب } [ الحشر 2]، بعد يأسٍ من النّاس، وتمكّنٍ من الطّغاة واستئناس، تأتي إرادة ربّ النّاس، فليكن اللّجوء إليه لا إلى أعداء الله من غير المسلمين من الأجناس.
* ختاماً:
أسأل الله النّصر للمظلومين، والعزّة لدين الله المكين، وحسن خاتمة وشرف صحبةٍ وحشرٍ مع سيّد المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.