الدستور هو مجموعة من النصوص القانونية التي تحدد كيفية إدارة الدولة – أي دولة – وماهيّة أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تنظم العلاقة بين الحاكم وأفراد الشعب، وبين أفراد الشعب أنفسهم، و يعد الدستور القانون الأعلى في الدولة أي أنه يلغي أي قانون آخر يخالفه.
والدستور يجب أن يكون بسيطا وواضحا ومفهوما وفي متناول جميع المواطنين العاديين، لا أن يكون معقدا أو غير مفهومٍ إلا من ذوي الاختصاص سواء الشرعي أو القانوني أو الدستوري، لأن حقوقهم وواجباتهم تعتمد عليه.
الدستور الفنلندي والتزام فنلندا بتطبيقه جعل منها أحد أعظم الدول حكومة و شعبا، سأستعرض بعض البنود المهمة فيه وكيف طُبِّقَتْ:
ينص الدستور الفنلندي على أن “الشعب ينتخب رئيس الدولة (رئيس الحكومة) والشرط الوحيد لأي شخص يرغب في أن يكون رئيسا للدولة – و هذا أعلى منصب فيها – هو “أن يكون مواطنا مولودا في فنلندا” بصرف النظر عن عائلته، جنسه، أصله، مذهبه، عقيدته أو رأيه.
وهذا ما انطبق على تاريا هالونن وهي مواطنة فنلندية عادية، أبوها كان لحّاما وأمها عاملة في مصنع أحذية، حيث تخرجت تاريا في جامعة هيلسنكي بعد أن نالت درجة الماجستير في القانون، بعد ذلك نشطت سياسيا وتولّت –لكفاءتها لا لأي اعتبار آخر– عدة مناصب من أهمها منصبي وزيرة العدل ووزيرة الشؤون الخارجية. في مطلع عام 2000م وعندما كان عمرها ستة وخمسين، رشحت تاريا نفسها في الانتخابات الرئاسية فنالت غالبية الأصوات وأصبحت أول امرأة تصل إلى هذا المنصب في فنلندا، في الانتخابات الرئاسية لعام 2006م أعادت تاريا ترشيح نفسها فنالت غالبية الأصوات مرة أخرى و فازت بدورة رئاسية ثانية.
ينص الدستور الفنلندي على أن “الرئيس يعيِن وزراءه بعد أن ينالوا ثقة مجلس النواب” وأن “الشعب ينتخب النواب، والمجلس ينتخب رئيس الوزراء” والشرط الوحيد لأي شخص يرغب في أن يكون رئيسا للوزراء – وهذا ثاني أعلى منصب في الدولة – هو “أن يكون مواطنا فنلنديا معروفا بالأمانة و الكفاءة”.
هذه البند ينطبق على يوركي كتاينن الذي نال درجة الماجستير في العلوم الاجتماعية، وبعد بضع سنوات انتُخب عضوا في مجلس النواب، وبعد سنتين أصبح نائب رئيس حزب المحافظين ومن ثَمَّ رئيسا للحزب. في انتخابات مجلس النواب لعام 2007م أصبح يوركي وزيرا للمالية وفي نهاية عام 2008م لقّبته صحيفة الفاينانشال تايمز “أفضل وزير مالية في أوروبا”، في منتصف عام 2011م و بعمر التاسعة والثلاثين رشح نفسه لمنصب رئيس الوزراء، و فاز به بعد أن نال غالبية أصوات النواب، قبل يومين فقط أتمّ يوركي عامه الأول في هذا المنصب.
ينص الدستور الفنلندي على أنه “يحق لمجلس النواب التقدم باتهام لدى محكمة العزل العليا ضد أي وزير يرى – المجلس – أنه قام بعمل غير قانوني، و يتم تقديم الاتهام بعد عرضه على لجنة القانون الدستوري”.
ومن الأمثلة على تطبيق هذا البند هو ما حصل لـ مايكل أرماس، الذي تولى عدة مناصب قيادية في الحكومة الفنلندية منها عضويته في مجلس النواب ووزارة النقل ووزارة العمل وآخرها منصب نائب رئيس الوزراء، تم توجيه تُهمة ضد مايكل بقَبول رشوة من أحد رجال الأعمال فعُرض على القضاء وقدم المدعي العام الأدلة التي تدينه وطالب بسجنه سنتين على أقل تقدير، محكمة مقاطعة هيلسنكي أدانت مايكل وحكمت عليه بالسجن سنة وثلاثة أشهر.
وقبله كنت أنيلي ياتينماكي التي انتُخبت رئيسة للوزراء في مطلع عام 2003م و اضطرت – تحت الضغط – إلى تقديم استقالتها بعد شهرين من تولي المنصب بسبب اتهامها بالكذب على مجلس النواب والشعب حول كيفية حصولها على مستندات استخدمتها في حملتها الانتخابية.
وجود دستور للدولة ووضوح تفاصيله للكل وتطبيقها بحذافيرها على الكل ليس ترفا سياسيا ولا مطلبا نخبويا، بل حاجة شعبية ملحّة، لأن أثرها ينعكس بشكل مباشر على جميع أفراد الشعب، فحسب منظمة الشفافية الدولية، نسبة سيادة القانون في فنلندا هي 100%، كما أشارت المنظمة إلى أن فنلندا احتلت – من بين كل دول العالم – المرتبة الأولى في حرية الصحافة والمرتبة الثانية في محاربة الفساد، والمرتبة الرابعة في استقلال القضاء، و حسب المنتدى الاقتصادي العالمي احتلت المرتبة الرابعة في التنافسية العالمية (مؤشر يقيس عدة عوامل تحقق التنمية والتطور الاقتصادي)، وهذا ما انعكس على الشعب حيث ذكر تقرير “السعادة في العالم” الصادر من معهد الأرض التابع لجامعة كولومبيا الأميركية أن الفنلنديين هم ثاني أسعد شعب في العالم.
مشكلة بعض الحكومات العربية أنها تزعم تطبيق شريعة الإسلام واعتماد القرآن دستورًا لها، و الحقيقة أننا نجد دولة مدنية كفنلندا تبدو إسلاميةً أكثر منها، لأن قوانينها الوضعية تطابقت مع روح الإسلام في حفظ حقوق المواطنين الأساسية (الشورى، الحريات، العدالة، الكرامة… إلخ) والفرعية، في حين أهملت الحكومات العربية تلك الحقوق واهتمت بمظهر الاسلام فانتهكت حرياتهم باسم الدين وراحت تحاسبهم على عباداتهم اليومية التي لا يجب أن يحاسبهم عليها سوى ربهم، وهذا لم يحدث عبثا، بل بشكل متعمد ومقصود لأن الاستبداد لا يستمر إلا بذلك، فهي تستخدم الدين بصفته غطاء شرعيا للفساد وسلب الحقوق ونهب الثروات.
النصوص الإسلامية (قرآنية ونبوية) لم تكتفِ بالحديث عن واجبات البشر تجاه الله، بل ذكرت واجبات البشر وحقوقهم تجاه أنفسهم، ولكنها تبقى نصوصا شاملة وعامة بعضها يحتاج إلى تفسير والبعض يحتاج إلى تفصيل، بعضها ينقصه التخصيص و آخر لم يسلم من التحريف، وما لا يختلف عليه أحد – حسب اعتقادي – أنه لا يفهمها (بصفتها قوانين إدارية و ليس نصوصا تعبدية) إلا اختصاصيين في اللغة والشريعة وهذا منافٍ للمنطق، فكيف للدولة محاسبة مواطنيها على قوانين لا يفهموها!
لذا، إذا أرادت حكومة ما أن تكون إسلامية بالمعنى السائد؛ فلتكن، و لكن يجب عليها قبل ذلك – وهذا أدنى مستويات احترام الشعب – أن تجمع علماء لغة وعلماء دين من جميع المذاهب ليستنبطوا من القرآن و السنة النبوية دستورًا واضحا ذا مفردات بسيطة يفهمها كل أفراد الشعب، وليُستنبَط أول بند في الدستور من قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم)، وثاني بند من حديث الرسول “صلى الله عليه وسلم” (إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). إن استطاعت فعل ذلك وإلا فلا خيار لها سوى دستور الدولة المدنية ذي الأحكام الوضعية، على غرار فنلندا.