الحمد لله الوهاب للمؤمنين سبيل الصواب والصلاة والسلام على سيدنا محمد الزاجرعن الاذناب الحاث الى طلب الثواب
وبعد :
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
وقرأ الجمهورُ ﴿ أَمَرْنا ﴾ بهمزة واحدة وتخفيف الميم؛ أيْ: أمرناهم بالطَّاعة والعدل، ففَسقوا عن أمر الله، وفعلوا الفواحشَ، ما ظهر منها وما بطن، فاستحقُّوا عقوبة الله، وقرأ يعقوب: ﴿ آمَرْنا ﴾ بالمدِّ، بِهَمزتين: همزة التعدية، وهمزة فاء الفعل؛ أيْ: جعلناهم آمِرين؛ أيْ: داعين قومَهم إلى الضَّلالة، والفسق: الخروج عن المقرِّ وعن الطريق، والمراد به في اصطلاحِ القرآن الخروجُ عمَّا أمر الله به، وتقدَّم عند قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26] في سورة البقرة".
وهناك قراءة بتشديد الميم: ﴿ أمَّرْنا ﴾؛ أيْ: جعلناهم أُمَراء وحكَّامًا، فطغَوْا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربُّك سوط عذاب، إن ربَّك لبالمرصاد، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].
"والتدمير: هدم البناء وإزالة أثَرِه، وهو مستعارٌ هنا للاستئصال؛ إذِ المقصود إهلاك أهلها، ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]".
فعندما تسمح القرى للمُترَفين بالوجود والحياة يحقُّ عليها القول بالهلاك والتدمير، فالإرادة هنا ليست إرادةً للتَّوجيه القهريِّ الذي يُنشئ السَّبب، ولكنَّها ترتُّب النتيجة على السبب؛ الأمر الذي لا مفرَّ منه؛ لأن السُّنة جرت به، والأمر ليس أمرًا توجيهيًّا إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعيَّة المترتِّبة على وجود المترفين، وهي الفسق.
وهُنا تَبْرز تَبِعة الجماعة في تَرْكِ النُّظم الفاسدة تُنشِئ آثارَها التي لا مفرَّ منها، وعدَم الضرب على أيدي المترفين فيها؛ كي لا يفسقوا فيها، فيحقّ عليها القول، فيدمِّرها الله تدميرًا.
جاء في التحرير والتنوير - (ج 8 / ص 199):
"وتعليق الأمر بِخُصوص المترفين مع أنَّ الرُّسل يُخاطِبون جميع الناس؛ لأنَّ عصيانَهم الأمرَ الموجَّه إليهم هو سبب فسقِهم، وفسق بقيَّة قومهم؛ إذْ هم قادة العامَّة، وزعماء الكُفر، فالخِطاب في الأكثر يتوجَّه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتَّبعهم الدَّهماء؛ فعمَّ الفسق أو غلب على القرية، فاستحقَّت الهلاك
هذه السُّنة قد مضت في الأولين من بعد نوحٍ، قرنًا بعد قرن، كلَّما فشَت الذُّنوب في أُمَّة انتهت بِها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده، البصيرُ بِهم، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 17].
كما أنَّ الإغراق في التنعُّم والتَّرف سبب لِنُزول بلاء الله وعقابه، والحرمان من النَّصر؛ ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 64 - 65]، ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 - 13].